من الذي ينقذ شعبنا من هذه الحالة «التعيسة»؟!

السفير هشام حمدان

إستمعت إلى نصيحة لأحدهم، يدعو فيها إلى إيجاد دواء يسمّى الدّواء اللّبناني. فاللّبناني أثبت أنّه لا يقهر. يدمّر بيته اليوم، فيعيد غدا بناؤه. يعيش في وطن فاقد السّيادة بإرادة سياسيّة محلّيّة، منذ عام 1969. لكنّه لم ييأس. ما زالت كلّ مقومات الحياة في وطنه، متوفّرة. إستخدمته جميع القوى الإقليميّة، والدّوليّة كساحة مستباحة. وتعاونت كلّ منها، مع ساسة منه لتحقيق أغراضها. تحوّل اللّبنانيّون، بقيادة هؤلاء السّاسة أنفسهم، إلى وقود لحرب إستمرّت خمس عشرة سنة. تقاتلوا، وسفكوا دماء بعضهم البعض، ودمروا بيوتهم وتشردوا. ورغم ذلك، عادوا إلى ما قبل الحرب، وكأنّ شيئا لم يكن.

من المؤسف أنّ عقول معظم أهالينا في كلّ لبنان مقفلة على أنغام الوتر المذهبي

نعم، إرادة الحياة عند اللّبناني، دواء، يشفي شعوبا كثيرة من أمراضها المزمنة. لكن، ما هو الدّواء لإقناع اللّبنانيّ أن يتوقف عن قبول استباحة إنسانه في حياته، وكرامته، وعزّته، وحقوقه، وأمواله، واستقراره النّفسي والعائلي، وسلامه بيئته، وبيته، ووحدة شعبه، وحرمة أراضيه الوطنيّة.

الحوار؟ منذ سنوات وهذا الحوار قائم لا نتيجة له. من المؤسف أنّ عقول معظم أهالينا في كلّ لبنان، مقفلة على أنغام الوتر المذهبي. المشكلة واحدة، ولكنّ تأثيرها على واقعنا متفاوت بين منطقة وأخرى. معظم أهالينا في الجنوب والبقاع الشّمالي يرحبون بالموت المجاني، وخراب بيوتهم، وعدم الإستقرار، بسبب هذا التّعصب المذهبي المكشوف تحت عباءة شعار “المقاومة”. أهلنا هؤلاء أنفسهم، كانوا قد قاتلوا ضدّ الفلسطيني، حامل شعار المقاومة آنذاك، وأصبحوا الآن يرفعون شعار “فداك يا سيّد”، عندما أصبح عنوان المقاومة: “ألمقاومة الإسلاميّة برعاية الوليّ الفقيه الشّيعي”.

بعض أهلنا في البقاع، وجبل لبنان، والشّمال، لاسيّما من المسيحيين، يرحبون بتفتيت الوطن للإفتراق عن الجنوب والبقاع الشّمالي. وقسم صامت كالدّروز، وأهل السّنّة، يترك لعبة الموت على حالها، ويلتهي خلال الوقت الضائع، في أموره اليوميّة كأنّ ما يجري حوله لا يعنيه.

ينظر المراقب نحونا، فيرى حالتنا اليوم. يرى حكومة تدير البلاد، وتمثّل كلّ هؤلاء. يعجب. ما هذا الشعب؟ هو ولا شكّ، شعب فريد من نوعه. لكن، لماذا؟ هذا السّؤال سألته أوّلا، إلى نفسي. ووجدت أنّه لا يمكن أن نفهم حالتنا ما لم نقرأ تاريخنا. كلّ مراقب محايد يفعل ذلك، سيرى ما مر به اللّبنانيّون من محن، فتجاوزوها. وسيرى ما قدّموه من خدمات في بناء التّاريخ الحديث للمنطقة. كان جسرا ثقافيّا، وحضاريّا بين الشّرق والغرب. كان قاعدة إقتصاديّة نموذجيّة، لمفهوم الإقتصاد الحرّ طوال الصّراع بين النّظامين الرّأسماليّ، والإشتراكي. كان قاعدة للحرّيّات العامّة سواء في تعدّد وسائل الإعلام فيه، أو تعدّد الأحزاب، أو في ممارسة الإنتخابات الدّيمقراطيّة، وضمان حقوق الأقلّيّات المتعدّدة المقيمة على أراضيه، وضمان حقوق العبادة حيث انتشرت الكنائس، والمعابد، والمساجد، على كلّ أراضيه، فأبرزت هيكلا رائعا من قدرة العيش المشترك، ونموذجا فريدا لحوار الأديان والثّقافات.

هذا المراقب نفسه، سيصل إلى المحطّة عندما أسقط الشرق والغرب، هذا الوهج، مستفيدا من كلّ هذه الحرّيّات فيه، ليحوّله ساحة لصراعاته. سيرى المراقب، أنّ الحماس الإسلامي العربي، واللّبناني، للقضيّة الفلسطينيّة، ولو كان مغلّفا بأحزاب أيديولوجيّة ناصريّة، بعثيّة، إخوانيّة، فقهية أو غيرها، دفع مسلمو لبنان، والقوى الأيديولوجيّة فيه، وبدعم أو صمت، من الحكومات العربيّة، وبتشجيع المعسكر الشّيوعي، لتحويل وطنهم، بإنسانه، ببيوت أهاليهم، بأموالهم، باستقرارهم العائلي، بازدهارهم، بتاريخهم، إلى خندق مفتوح من أجل فلسطين. كلّ ذلك، كي لا يدير هؤلاء، الصّراع المعلن مع إسرائيل من على أراضيهم الوطنيّة، فيدفعون الأثمان الباهظة لها. لم ينتم هؤلاء إلى الشريك المسيحي في الوطن، الذي لا تشدّه الحميّة الطّائفيّة، والمذهبيّة للإستهانة بوطنه وبحياته، من أجل القضيّة الفلسطينيّة، ولا يقبل تحويل وطنه ساحة حرب لهذا الغرض.

وبكلّ بساطة، إستغلّ الغرب الدّيمقراطي هذا الواقع أيضا. هل سيكون الغرب الدّيمقراطي لبنانيّا أكثر من اللّبنانيّين؟ صمت الغرب الدّيمقراطيّ عندما انتهك لبنان صراحة، قرارا ملزما لمجلس الأمن، هو قرار الهدنة لعام 1949، وقامت حكومته الضّعيفة، غصبا، بتوقيع إتّفاق القاهرة المشؤوم عام 1969.    

رأى الغرب بوضوح، أهمّيّة العامل الدّينيّ في تمزيق الشّعوب لأوطانها. ساعدته حالة لبنان في تعزيز اللّعبة الطّائفية في الدّول العربيّة كافّة. فتمزّقت هذه الدّول. طابخ السّمّ آكله. أكلت الأنظمة العربيّة السّمّ نفسه الذي أحيته في الجسد اللّبناني.

السؤال الآن، من الذي ينقذ شعبنا إذا من هذه الحالة التّعيسة؟ نفتش حوّلنا، فنرى وجوها يجترّها الإعلام المرئي والمكتوب. لكن، لا حركة عمليّة تثمر تحريكا للعقول الآسنة الرّاكدة في مواقعها.

لا حركة عمليّة تثمر تحريكا للعقول الآسنة الرّاكدة في مواقعها

لماذا؟ لأنّه لا يوجد مشروع قائد قادر على النّفاذ، من بين الخيوط الطّائفيّة العنكبوتيّة. زمن الأحزاب العلمانيّة إنتهى. منها ما أصبح من الماضي، ومنها ما غرق في فلسفة القيادة الدّيكتاتوريّة العلويّة السّوريّة، فصار أداة لخدمة اللّعبة الطّائفيّة، والوليّ الفقيه الإيراني.

لدينا مشروعنا الوطني. وسننشره قريبا كي يكون محور نقاش لمن يرغب، بقيام لقاء وطني إنقاذي لهذا البلد. وأشكر “جنوبيّة” التي تتيح نافذة لهذا الحوار البنّاء.

نحن في مرحلة مصيريّة تاريخيّة، وأرغب أن اسأل أهلي في الجنوب والبقاع الشّمالي، إذا كان الوليّ الفقيه في إيران يرى ضرورة إزالة إسرائيل، لأي سبب من الأسباب، ويرى وجوب تحرير القدس، فلماذا لا يقوم جيشه بهذا الأمر؟ ما معنى أن يجيّش بفعل الإلحاق الدّيني، شعوبا أخرى للقيام بذلك؟ يغدق عليها المال، والسّلاح، والوسائل، والخدمات لكنّه يتركها لتقاتل، وتدفن أبناءها، ويمنعها من التّقدّم لتحقيق الهدف: ازالة إسرائيل وتحرير القدس، خوفا كما قال قائد المقاومة بنفسه، من تورّطه المباشر. تورّطه خطّ أحمر على هذه اهلنا في الجنوب أن تحترمه وأن لا تسمح بتخطيه.، ولو كان ذلك يعني أن تتحوّل إلى غزّة أخرى.

نحن في مرحلة مصيريّة تاريخيّة وأرغب أن اسأل أهلي في الجنوب والبقاع الشّمالي إذا كان الوليّ الفقيه في إيران يرى ضرورة إزالة إسرائيل

يمكن أن السلاح الذي تحتاجه المقاومة قد وصل، كما قال سيّد “المقاومة”. ويمكن أن يدمر 80% من البنى التحتيّة في إسرائيل، لكن ما هي النتيجة لكلّ هذا الجنون؟ هل هو تحسين شروط التّفاوض كما قال سيّد المقاومة نفسه؟ شروط من؟ شروط إيران طبعا. هذا ما قاله صراحة وزير خارجيّتها بالوكالة.

لماذا يا قادة المقاومة عليكم أن تقاتلوا، وتقتلون أهلكم، فيما الإيراني الذي يدفع لكم، يجب أن يبقى بعيدا عن النّار؟ لماذا تسمحون بتدمير قراكم، ومدنكم، وبيوتكم، وتشريد أهاليكم فيما الإيراني يعمل لإزدهار بلاده، واستقرارها، وسلامتها؟

قلنا ونكرّر، نحن مع أهلنا في الجنوب في السّراء والضّراء. لكنّنا نريد من أهلنا أن يكونوا هم مع أنفسهم. إنّ أوّل الإرشادات عندما تركب الطّائرة، هو أن تضع قناع الأوكسيجين على أنفك، قبل أن تضعه على أنف إبنك، لأنّك لا تفيده اذا لم تكن بخير. لو أنّ إيران تدخل الحرب، لما تردّدنا في دعم المقاومة، فمن ساواك بنفسه ما ظلمك. لكن، من يدفع بك الى النّار، وهو بعيد عنها مقابل الأموال، والخدمات، والسّلاح، فهو يجعل منك مرتزقا، تبرر له فعلته بحوافز الدّين والايمان،

نحن مع أهلنا في الجنوب في السّراء والضّراء لكنّنا نريد من أهلنا أن يكونوا هم مع أنفسهم

أنتم تقدّمون أنفسكم ضحيّة مجانيّة على مذبح الآخرين. بلّ تجعلون منّا غصبا عنّا، ضحيّة مجانيّة مشابهة. فلسطين في ضمائرنا، لكن ما ينفع فلسطين، أن نتحوّل فلسطين أخرى؟ ما ينفع غزّة أن نتحوّل غزّة أخرى؟ بالله عليكم ماذا فعلتم لأهل غزّة منذ ٨ تشرين الأوّل، يوم قرّرتم التّضحية ببيوتكم، وأولادكم من أجلهم؟ بالله عليكم، هل أوقفتم المجازر، والقتل، والدمار؟ ماذا ينفعك أن تربح إيران، وتخسر أهلك، ووطنك، وكرامة شعبك؟

أوقفوا استخدامكم، واستخدام وطننا ساحة حروب للاخرين.

السابق
جريمة مروعة تهزّ البقاع.. قتلها ثم انتحر!
التالي
ملتقى التأثير المدني: زمنُ العملِ الصَّامِت بين كُتْلَتَين تاريخيَّة ووازِنَة!