اليمين الراديكالي على أعتاب الإليزيه: الانتخابات التشريعية المبكرة وآفاق الوضع السياسي في فرنسا

فرنسا

غداة إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في 9 يونيو 2024 التي حقق فيه حزب «التجمع الوطني» نتائج غير مسبوقة، أعلن الرئيس الفرنسي أمانويل ماكرون حل البرلمان وتنظيم انتخابات مبكرة يومي 30 يونيو و7 يوليو. وأحدث قرار الرئيس ماكرون هزة داخلية كبرى في فرنسا التي تعيش لحظة حاسمة في مسارها السياسي المعاصر.

نتائج الانتخابات الأوروبية ودلالاتها السياسية

وفقاً للأرقام المعلنة، أدت الانتخابات البرلمانية الأوربية إلى خلق معادلة سياسية جديدة غير مسبوقة تتمثل في تحوُّل حزب “التجمع الوطني” (أقصى اليمين) إلى الحزب السياسي الأول في فرنسا بحصوله على على 31.37% من الأصوات العامة للناخبين، في الوقت الذي لم تحصل اللائحة المدعومة من رئيس الجمهورية إلا على 14.60%. وفق هذه المعطيات، حصلت لائحة القوى الاشتراكية على 13.83% من الأصوات، ولائحة “فرنسا الأبية” (أقصى اليسار) على 9.89%، ولائحة اليمين التقليدي على 7.25%، ولائحة أحزاب البيئة على 5.50%، ولائحة حزب “الاستعادة” (اليمين المتطرف) على 5.47%.

اقرأ أيضاً: عن عملية السلام والدولة الفلسطينية

وعلى الرغم من أن الانتخابات الأوروبية لا تعكس بدقة طبيعة التوازنات السياسية الداخلية، بالنظر إلى نمط سيرها (شوط واحد)، وباعتبار رهاناتها الخارجية (الملفات الأوروبية )، وضعف الإقبال على المشاركة فيها (51.49%)، فإنَّها كرَّست وضعاً سياسياً كانت مؤشراته قائمة من قبل. ومن أهم سمات هذا الوضع:

أولاً، الحجم المتزايد لحزب “التجمع الوطني” الذي كان تنظيماً هشاً ومعزولاً في عهد مؤسسه جان ماري لوبان، لكنه غدا القوة السياسية الكبرى في فرنسا حالياً. ففضلاً عن حصول زعيمة الحزب مارين لوبان في الشوط الثاني من الانتخابات الرئاسية لسنة 2022 على 41.46% من أصوات الناخبين ، فإن الحزب حقق المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية سنة 2022 بحصوله على 89 نائباً، ما جعل منه حزب المعارضة الأول في مجلس برلماني من دون أغلبية مطلقة. والنتائج الأخيرة التي حصل عليها الحزب في الانتخابات الأوروبية تجعل منه لأول مرة القوة السياسية الكبرى في فرنسا، بما قد يؤهله حسب قادته للفوز في الانتخابات المبكرة لكي يرأس الحكومة المقبلة.

ثانياً، التراجع الكبير لحزب “الجمهورية إلى الأمام” الذي أسسه الرئيس ماكرون وأراد منه أن يكون بديلاً عن ثنائية اليمين الديغولي واليسار الاشتراكي. ومع أن هذا الحزب كان يقود الحكومة منذ انتخابات 2022 على رغم أنه لا يتمتع إلا بأغلبية نسبية، إلا أنه تعرَّض لانتكاسة قوية، بما قد يضعف من قدراته الانتخابية في الاستحقاقات المقبلة التي ستجري في ظروف استعجالية سريعة.

ثالثاً، تواصُل تراجُع الحزبين التقليديين اللذين سيطرا على الحياة السياسية في فرنسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهما الحزب الديغولي (الذي تسمى بالجمهوريين) والحزب الاشتراكي. ومع أن لائحة الحزب الاشتراكي حصلت على المركز الثالث في الانتخابات الأوروبية، إلا أن الحزب لا يزال في طور التراجع، وذلك هو وضع اليمين التقليدي الذي تزايد انحساره في الموازين الانتخابية.

آفاق المعادلة السياسية في فرنسا

على الرغم من صعوبة استشراف الوضع السياسي الفرنسي في الوقت الحاضر، فإنَّ بعض المؤشرات المهمة أصبحت جلية للعيان، ومنها:

1) توجُّه الرئيس ماكرون لاستئناف مشروعه السياسي الأصلي بطرح فكرة “التحالف الجمهوري الواسع” ضد اليمين الراديكالي واليسار المتطرف، بما يعني جمع قوى اليمين واليسار المعتدلة في جبهة واسعة قادرة على انتزاع أغلبية مطلقة في التشكيلة البرلمانية المقبلة. وطرح الرئيس ماكرون فكرة دعم نواب الأحزاب الأخرى منتهية ولايتهم في الاستحقاقات المقبلة بعدم تقديم منافسين لهم، ضماناً لبناء تحالف واسع يكون قاعدة برلمانية للحكومة المقبلة. إلا أنَّه من المستبعد أن يحصل مشروع ماكرون على دعم الحزب اليميني التقليدي (الجمهوريون) أو الحزب الاشتراكي.

2) طرح حزب “التجمع الوطني” فكرة ائتلاف قوى اليمين بمختلف تياراته استعداداً للانتخابات البرلمانية المقبلة، ودعم رئيس حزب “الجمهوريين” أريك سيوتي هذا التوجه، لكن أغلب قادة الحزب رفضوا هذا الخيار، بما قد يعرُّض الحزب للتفكك والانقسام. كما أن محاولات التنسيق بين “التجمع الوطني” وحزب “الاستعادة” الذي يرأسه أريك زمور فشلت عملياً، بما يعني أن ائتلاف اليمين الراديكالي لن يتشكل في الاستحقاقات المقبلة.

3) تبنَّت قوى اليسار بمختلف مكوناتها قيام جبهة مشتركة باسم “الجبهة الشعبية”، متغلبة مرحلياً على خلافاتها العميقة (خصوصاً بين الاشتراكيين وحزب فرنسا الأبية بزعامة جان لوك ميلونشون). وفي حال بروز هذا الائتلاف، قد يشكل قوة انتخابية منافسة لليمين الراديكالي.

سيناريوهات المشهد السياسي الفرنسي

في ضوء المعطيات السابقة، يمكن استجلاء السيناريوهات الأربعة الآتية:

1) سيناريو نجاح اليمين الراديكالي في الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان المقبل، مستفيداً من الديناميكية الأخيرة التي حققها في الانتخابات الأوروبية (40% لمجموع التشكيلات اليمينية الراديكالية). إلا أن تحقُّق هذا السيناريو يحتاج إلى استقطاب مجموعة وازنة من اليمين التقليدي، بالنظر إلى حاجة “التجمع الوطني” إلى تحالفات محلية في الشوط الثاني من الانتخابات البرلمانية.

2) سيناريو نجاح تكتل اليسار في الحصول على أغلبية مطلقة في البرلمان بعد نجاحه في الائتلاف والتنسيق بين مختلف مكوناته. ومعروف أن قوى اليسار حصلت مجتمعة على نسبة تتجاوز 30% من أصوات الناخبين في الاستحقاقات الأوروبية الأخيرة، بما يؤهلها لانتزاع مكاسب انتخابية مهمة في السباق البرلماني المقبل، وإن كان من الصعب عليها اختراق حاجز الأربعين بالمائة من الأصوات الشعبية.

3) سيناريو نجاح القوى الداعمة للرئيس ماكرون في الحصول على أغلبية مطلقة في الانتخابات المقبلة. يبدو هذا السيناريو ضعيفاً وغير متوقع، نتيجة حجم الامتعاض العام في الشارع الفرنسي إزاء قرارات الحكومة الحالية وبرامجها.

4) سيناريو بروز مجلس برلماني من دون أغلبية مطلقة يتشكل من ثلاث مكونات كبرى: اليمين الراديكالي، وتكتل اليسار، وائتلاف الوسط، مع تصدُّر اليمين الراديكالي نتائج الانتخابات. يبدو هذا السيناريو هو الأرجح، بما يضع فرنسا أمام خيارين صعبين هما: إما تشكيل حكومة برئاسة جوردان باردلا زعيم اليمين الراديكالي الذي هو القوة البرلمانية الأولى دون أن تكون لهذه الحكومة أغلبية مطلقة مستقرة، أو استمرار الوضع السياسي الحالي بما يقود إلى الفوضى وعدم الاستقرار وربما فرض تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة لا يشارك فيها الرئيس الحالي ماكرون.

ما ستكشف عنه هذه المعادلة هو نهاية الاستثناء الدستوري الفرنسي، أي النظام الرئاسي البرلماني المزدوج الذي لا يتناسب مع مسلك التحالفات الحزبية الذي هو الأسلوب المتبع في جُلِّ الدول الديمقراطية الأوربية. وقد يتطلب هذا الوضع مراجعة جذرية لنظام الجمهورية الخامسة الفرنسية الذي وضعه الرئيس الأسبق الجنرال ديغول سنة 1958.

خلاصة

أحدثت الانتخابات الأوروبية الأخيرة زلزالاً سياسياً في فرنسا، إثر حصول حزب “التجمع الوطني” اليميني الراديكالي على نسبة تتجاوز ثلاثين بالمائة من أصوات الناخبين، في الوقت الذي تراجع فيه حزب “الجمهورية إلى الأمام” الذي أسسه الرئيس ماكرون. ومع حلِّ البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة في 30 يونيو و7 يوليو، يبدو أن المشهد الأرجح هو قيام مجلس برلماني من دون أغلبية مطلقة، يتصدَّره اليمين الراديكالي، بما يُعرِّض البلاد لمرحلة جديدة من التأزم وعدم الاستقرار السياسي.

السابق
الاميركيون يلوحون بـ«الحرب المضبوطة» جنوباً..ورفض «ناعم» من «حماس» لهدنة غزة «المفخخة»!
التالي
أمين عام النقابات السياحية لـ«جنوبية»: حجوزات العيد تراجعت..الأزمة تُهدّد كل القطاعات!