أحمد بيضون: تَخاريفُ عَلى هَدْيِ المِزاجِ والقَريحة

احمد بيضون

كتب الدكتور أحمد بيضون عبر حسابه الخاص على فيسبوك تحت عنوان “تَخاريفُ عَلى هَدْيِ المِزاجِ والقَريحة” التالي:

أَفْطَنُ إلى ما انْتَهَتْ إليهِ حالُنا فَيَخْطُرُ لي قَوْلُهُم: “تَفَرَّقوا أيْدي سَبَأ!”. ذاكَ ما يَحِلّ بالعائلاتِ اللُبْنانيّةِ عادةً، إذْ تَخْرُجُ مِنْ دِيارِها رَفْساً لا طَوْعا. وقَد راحَت عائلَتُنا تَتَفَرَّقُ أَيْدي سَبَأٍ مِنْ عُقودٍ كَثيرةٍ وكُنْتُ آخِرَ مَن غادَرَ مِن بَيْنِ عَناصِرِها: اغْتَرَبْتُ وأنا على عَتَبةِ الثَمانينَ أي في السِنًِ التي يَكونُ المُغْتَرِبونَ قَدْ آبوا إلى دِيارِهِم، عَلى الإجْمالِ، قَبْلَ بُلوغِها بِزَمَن. تفَرَّقْنا إذَنْ أَيْدي سَبَأ…

وفي الحديثِ أنّ سَبَأ “رَجُلٌ من العَرَبِ وُلِدَ لَهُ عَشَرةٌ: تَيامَنَ مِنْهُم سِتّةٌ وتَشاءَمَ مِنْهُم أَرْبَعة”. وكان سَبَبُ تَفَرُّقِهِم هذا، بَيْنَ جِهاتِ الشامِ وجِهاتِ اليَمَنِ، ما بُسَمّيهِ القُرْآنُ “سَيْلَ العَرِم” وهو انْهِيارُ سَدِّ مَأْرِب. وهذا حَدَثٌ يَبْدو لي أَشْبَهَ الحَوادِثِ القديمةِ بِتَفْجيرِ مَرْفَإ بَيْروت المَعْلوم. هذا وإذا صَحَّ زَعْمُ المُحَدِّثينَ أنّ جُرَذاً نَقَبَ السَدَّ اليَمَنِيَّ العَظيمَ انْتَفى كُلُّ مانِعٍ مَنْطِقِيٍّ أنْ يَكونَ الجُرَذُ نَفْسُهُ وصَلَ إلى مَرْفَإ عاصِمَتِنا، وفي ذَيْلِهِ نارٌ، ذاتَ يَوْمٍ لاهِبٍ مِن صَيْفِ العامِ ٢٠٢٠. هذهِ فَرْضِيّةٌ أحِبُّ أن أُنَبِّهَ إلَيْها المُحَقِّقَ العَدْلِيَّ (الذي نَسيتُ اسمَهُ لِبُعْدِ العَهْدِ بِأَخْبارِهِ) عَسى أن يَجِدَ فيها مَخْرَجاً مِن وَرْطَتِهِ المُسْتَعْصِيةِ فَتُحْفَظَ القَضِيّة ويَنْصَرِفَ المُحَقِّقُ إلى ما يُفيد…

أعودُ إلى التَيامُنِ والتَشاؤم… وخُلاصةُ القَوْلِ فيهِما أنَّ المَعاجِمَ القَديمةَ حَفِظَت للتشاؤمِ هذا المَعْنى المُشارَ إلَيهِ وهو التوَجُّهُ إلى الشامِ، ويُقابِلُهُ التَيامُنُ وهو تَيْميمُ شَطْرِ اليَمَن.

هذا وقد شاعَ اسْتِعْمالُ “التَفاؤلِ” مُقابِلاً للتَشاؤمِ أيضاً. وهو اسْتِعْمالٌ مَقْبولٌ ولَكِنْ لا يَبْدو هذا المَعْنى (أي معنى الاسْتِبْشارِ) أَصْلِيّاً في “التَفاؤلِ” ويَبْقى “التَيامُنُ” أَوْلى بِه. فالتَفاؤلُ مِن “الفَأْلِ” وهذا يكونُ فَألَ خَيْرٍ ويَكونُ فَأْلَ سوء. وقد يَصِحُّ اعْتِبارُ المأثورِ “تَفاءلوا بالخَيْرِ تَجِدوه” مُؤيِّداً لِهذا الرَأْي. فهو قد اضطُرَّ إلى التَصْريحِ بِذِكْرِ الخَيرِ بِما هو مَوْضوعٌ للتَفاؤلِ ولَمْ يَعْتَبِر الخَيْرَ ماثِلاً بالضَرورةِ في مَفْهومِ التَفاؤلِ فَلا يَحْتاجُ إلى ذِكْرِه. وهو لَمْ يَقُلْ مَثَلاً: “تَفاءَلوا تَجِدوا خَيْراً” إذ لا تَسْتَقيمُ هذهِ الصيغةُ ما دامَ التَفاؤلُ جائزاً بالخَيْرِ وبالشَرِّ على حَدٍّ سَواء. على أنّهُ لا رَيْبَ أنّ حَصْرَ التَفاؤلِ بالخَيْرِ والتَشاؤمِ بالشَرِّ قد شاعَ، في كَلامِنا، وذاع…

فّلِماذا فُرِضَت على الشامِ هذه الوَصْمةُ، في كَلامِ القُدَماءِ، واسْتَأْثَرَت اليَمَنُ باليُمْنِ والبَرَكات؟ الراجِحُ عِنْدي أنّ السَبَبَ هو مَوْقِعُ الشامِ إلى الشمالِ من الجزيرةِ، وهذهِ جِهةٌ كانت قَليلةَ الحَظِّ، على الدَوامِ، في عُرْفِهِم. ويقابِلُها اليَمَنُ، في الجَنوبِ، وقَدْ عُدّتْ مُجانِسةً لليمينِ ولليُمْنِ مِنْ ثَمّ. وهذا هو المَبْدَأُ الذي كانَ مُعْتَمَداً في التَطَيُّر: اليمينُ سَعْدٌ والشمالُ نَحْس. وفي عُهودِ التَعَصُّبِ والتَضْييقِ، كانَ يُقالُ للذِمِّيِّ: “أَشْمِلْ يا كافِر!” أي: إلْزَمْ جِهةَ الشمالِ مِن الطَريق.

وكانَ صَباحٌ وكانَ مَساءٌ… وثَبَتَت، في أيّامِنا، وَصْمةُ الشُؤمِ على الشامِ العَظيمةِ، وذلكَ للُزومِ التَعْريجِ المُحْتَمَلِ (والعِياذُ بِالله!) عَلى “فَرْعِ فلسطين”! وهو ما كادَ أنْ يَحْصُلَ لي ذاتَ مَرّةٍ لَوْلا أنَّ سَوّاقَ فرانك مرمييه Franck Mermier (وكُنّا مَعاً)كانَ لهُ مِن النُفوذِ الحُدودِيِّ ما يَفوقُ بِما لا يُقاسُ نُفوذَ نقابةِ السَوّاقينَ بِأَسْرِها. حَتّى أنّني كِدْتُ أنْ أَعْرِضَ عَلى هَذا السَوّاقِ قَيْلولةً في المَقْعَدِ الخَلْفِيِّ الأَيْمَنِ فيما أَتَوَلّى، بَعْدَ إذْنِهِ، سَوْقَ السَيّارة. وقد ازْدَدْتُ مُؤَخَّراً إكْباراً لبُعْدِ نَظَرِ الجِهازِ الذي وَضَعَ في خِدْمةِ ذَلِكَ المَرْكَزِ الفَرَنْسِيِّ سَوّاقاً مُطْلَقَ الصلاحِيّةِ، حَلّالاً للعُقَد: إذْ لَوْلاهُ لَوَجَدْتُ، عَلى الأَرْجَحِ، ما أَشْهَدُ بِهِ أَمامَ تِلْكَ المَحْكَمةِ الباريسِيّةِ التي نَطَقَت بِحُكْمِها قَبْلَ أَيّام…

وأمّا التَيامُنُ فخَرَجَ، مِن جِهَتِهِ، مِن اليَمَنِ السَعيدِ أي من مَمْلكةِ الحوثِيّينَ الحاليّةِ. خَرَجَ قَبْلَ زَمَنِ هؤلاءِ بِدَهْرٍ وَلَمْ يَعُدْ، وكانَ حَقّاً لهُ أن يَخْرُج. فَلَزِمَ أن نَحْمِلَ التَفاؤلَ على مَحْمَلِ الخَيْرِ حَمْلاً مطَّرِداً شاءَ التَفاؤلُ أمْ أبى!

يَبْقى التَمَرُّدُ على هذهِ الحالِ كُلِّها: يَبْقى لِمَن اسْتَطاعَ إليهِ سَبيلاً، بِطَبيعةِ الحال.

وقَد اتّفَقَ أنّ المَعاجِمَ القَديمةَ نَفْسَها أَدْرجَت بَيْنَ مَعاني التَمَرُّدِ التَوَجُّهَ إلى ماردين! وهذهِ، في أيّامِنا، رَمْيةٌ مِن غَيْرِ رامٍ : فَإنّ خَليطَ الكُرْدِ والأَشورِيّينَ والعَرَبِ الذي يَأْهَلُ هذهِ المَدينةَ مُتَمَرِّدٌ تلْقائيّاً بَعْضُهُ على بَعْضٍ وكُلُّهُ على تَرْكيا أردوغان!
نَتَوَجَّهُ إذَنْ إلى ماردين، مَتى اسْتَطَعْنا، مُسْتَهْدينَ ما تُسَوِّلُهُ لَنا مَعاجِمُنا القَديمةُ مِنْ غَيْرِ ميعاد.

أَحْسَنُ GPS مَعاجِمُنا هَذه!

السابق
المجفل أول سفير سعودي لدى سوريا منذ 12 عاماً.. من هو؟
التالي
جنون نتانياهو يتصاعد من بنت جبيل الى رفح..والحكومة تتخبط من قصر الصنوبر الى بروكسل!