وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: إيران الثورة وخيار اللادولة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

على هامش مراسيم تشييع رئيس إيران الراحل ابراهيم رئيسي، عقد قائد الحرس الثوري ورئيس “فيلق القدس” اجتماعاً، مع قادة كل من “حركة حماس” و”أنصار الله” و”حزب الله” في لبنان، واتفقوا جميعاً على مواصلة القتال ضد إسرائيل لتحقيق النصر.

لا جديد في هذا الاتفاق أو القرار، فهو تأكيد ما هو مؤكد من المواجهات المتعددة،  التي تحصل حالياً بين إسرائيل والقوى المتعددة التابعة لإيران. لكن هذا اللقاء والبيان الذي صدر عن الجميع، يحمل رسالات ودلائل عدة. 

أول هذه الرسائل، هو الإعلان بان لا شيء تغير أو سيتغير رئيس في إيران بعد وفاة رئيسي، في التعامل مع حرب غزة، أو في استمرار الجبهات المتعددة، التي يديرها النظام الإيراني عبر أذرعه في المنطقة. هو إعلان لسد باب التكهنات عند القريب والخصم، وربما لحسم الجدل الإيراني الداخلي، وقطع الطريق على اي تحول أو تعديل ممكن داخل إيران تجاه هذه الجبهات، من خلال التأكيد بأن تغير الشحصيات الرسمية في إيران، ومجيء وجوه جديدة، لن يغير من إيقاع واستراتيجية إيران، في حرب الجبهات المفتوحة ضد إسرائيل وحلفائها. 

إجتماع طهران لأذرعها في المنطقة أن لا شيء تغير أو سيتغير رئيس في إيران بعد وفاة رئيسي في التعامل مع حرب غزة أو في استمرار الجبهات المتعددة

يفهم من الإعلان أيضاً، أن صدور القرار المشترك بين هذه القوى، يعني أن إيران، هي الراعي والمنظم والموجه الأول، والحصري لهذه الجبهات المتعددة ضد إسرائيل. صحيح أن إيران تنأى بنفسها عن المشاركة المباشرة في هذه المواجهة، لكن إعلان طهران الأخير، يعني أنها حاضرة في جميع هذه الجبهات على المستوى العسكري واللوجستي والسياسي. بالتالي فإن إيقاع هذه الجبهات في توزيع الأدوار، والتصعيد والتهدئة، الاستمرار والتوقف، المهادنة والتسوية والاستثمار السياسي، يتم دوزنته وضبطه وتحديد مساراته ووجهته من العاصمة الإيرانية.

إقرأ ايضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الإجماع والشرعية أساسا كل فعل مقاوم

ومن جملة رسائل هذه الإعلان، أن إيران تقدم نفسها لاعباً أساسياً في الملف الفلسطيني. صحيح أنها لم تحظ بالاعتراف الدولي بهذا الدور حتى الآن، إلا أن ذلك قضية وقت بالنسبة إليها. فلعبتها دائما هي ترسيخ أمر واقع، يغلب عليه الطابع العسكري والميليشياوي في بلد معين، لا يمكن تجاوزه، ما يدفع دول الغرب التي تقيس الأمور بقياس المصالح لا المبادىء، إلى التصرف بواقعية والتعامل مع الواقع، وفق خارطة القوى الفعلية فيه. ولعل لبنان أهم نموذج لذلك، بعد أن باتت أكثر قضاياه الاستراتيجية إن لم يكن كلها، تقرر في إيران. 

إيران تقدم نفسها لاعباً أساسياً في الملف الفلسطيني صحيح أنها لم تحظ بالاعتراف الدولي بهذا الدور حتى الآن إلا أن ذلك قضية وقت بالنسبة إليها

يضاف إلى تلك الرسائل، ربط أحداث المواجهات ضد إسرائيل بأمن إيران القومي، وفي مقدم ذلك الملف النووي. بخاصة مع وصول التخصيب النووي في إيران إلى مستويات متقدمة، يؤهلها لإنتاج السلاح النووي. هذا يعزز من دور إيران الإقليمي لجهة كونها تحمل قدرة ردع نووي، لا تتوفر عند أية دولة في المجال العربي. بالتالي لا تعود تداعيات الملف النووي تقتصر على إيران، بل تشمل منطقة الشرق الأوسط بأسرها. أي يتم ربط القدرة النووية الإيرانية، بمجريات أحداث المنطقة، وهو أمر يوفر عناصر حماية إضافية لإيران، وهامش مناورة لها، وحيازة مزيد من أوراق المقايضة والضغط وحتى الابتزاز ضد خصومها الدوليين وفي مقدمهم الولايات المتحدة الأمريكية.

أما في الدلالات، فهي أكثر من أن تحصى. يأتي في مقدمها أن النظام الإيراني نفسه، لا يتصرف كدولة تقيم مع الدول الأخرى علاقات، وفق الأصول الدبلوماسية، بل يقيم علاقات مع تنظيمات وميليشيات يزرعها في بلدان عدة، ويقوم بتسليح وتدريب هذه التنظيمات ويملي عليها التعلميات، من دون مراعاة خصوصية هذه البلدان ولا سيادة دولها. بالتالي فإن قرار الحرس الثوري الأخير، يشي بأنه يملك القرار بفتح الجبهات وتصعيد المعارك، مع قطع النظر عن إرادة شعوب أو دول المناطق التي يدير بها النظام حروبه ومواجهاته، ليس ضد إسرائيل فحسب بل ضد منظومة الدول، التي لا يعتبر أنها تهدد أمنه القومي وتفرض عليه قيود وعقوبات، تعيقه من النمو الداخلي.

إعلان الحرس الثوري بالنيابة عن الجهات الرسمية في الدولة الإيرانية استمرار الجبهات الخارجية يوحي بغياب منطق الدولة في إيران نفسها

أضف إلى ذلك، فإن إعلان الحرس الثوري بالنيابة عن الجهات الرسمية في الدولة الإيرانية،  استمرار الجبهات الخارجية، يوحي بغياب منطق الدولة في إيران نفسها. إذ إن هكذا إعلان منوط بالقيادات الرسمية وليس بالقيادة العسكرية. ما يشي بوجود ثنائية بين كيان الدولة والكيان العسكري الثوري، يلتقيان ويتقاطعان عند قيادة الولي الفقيه علي خامنئي. ما يعني أن النظام الإيراني لم يحسم منطق الدولة في داخله، ولم يرتق ليكون بمستوى دولة بالمعنى الحديث. حيث يبدو منقسماً بداخله على نفسه، بين منطق الدولة ومؤسساتها، التي مهمتها إدارة شؤون المجتمع الإيراني، وفق ما تقتضيه مصلحته ورفاهه وأمنه من جهة، وبين جناحه الثوري الذي مهمته تصدير الثورة من جهة أخرى. وتصدير الثورة هنا بات فارغاً من أي مضمون فكري أو ثقافي، واقتصر على إنشاء تكوينات أمنية متفرقة خارج إيران، مزودة بدوغمائيات غريبة ومقفلة، ولا تمت للزمان والمكان وحتى الحياة بصلة. 

أما الدلالة الأخرى، وهي أن مشاركة “حماس” في إعلان طهران، بواسطة رئيس مكتبها السياسي اسماعيل هنية. يدل على خلط أوراق القضية الفلسطينية، وإدخال إيران مرجعية أساسية فيه. إضافة إلى إحداث انزياح وخروج علني هذه المرة من الغطاء العربي. وهو موقف يعطي أكثر مما يأخذ، ويتسبب بإحراج وارتباك كبيرين داخل المجال الفلسطيني، بل يتسبب بتصدعات وإنقسامات بين الممثليات الفلسطينية، ما يحول دون توحيد الجبهة الداخلية، وبلورة مشروع مشترك جامع لقيام الدولة الفلسطينية.

مهما قيل في ضعف الموقف العربي، ومهما عدَّدنا ترهل وفساد الكيان السياسي الفلسطيني الحالي، إلا أنهما أي العمق العربي والشرعية الفلسطينية الجامعة، أساس أي حل أو انفراج مقبل للقضية الفلسطينية، وخسارة هذين البعدين، سيتسببان بمزيد من التراجع والتخبط في نضال الشعب الفلسطيني، لإقامة دولة ذات سيادة. 

بتنا الآن نفهم غياب منطق الدولة، عند جميع أذرع إيران والتنظيمات الموالية لها. السبب يعود إلى أن إيران الثورة نفسها، لم تحسم خيارها في اعتماد مبدأ الدولة أساساً وأرضية، لا على مستوى تنظيم شؤونها الداخلية، ولا على مستوى علاقتها مع العالم. 

السابق
ليلة عصيبة عاشها الجنوب..غارات وقصف وتمشيط اسرائيلي!
التالي
اسرائيل تغتال قيادياً في «حزب الله» بدرون انتحارية في الناقورة..والمقاومة تَرُد!