المُوازَنة القَلِقة: المقاربة الأوروبية تجاه التصعيد بين إيران وإسرائيل

صواريخ ايران

شنَّت إيران في 13 أبريل 2024 هجوماً على إسرائيل حمل اسم “عملية الوعد الصادق”، رداً على الهجوم الإسرائيلي ضد المجمع الدبلوماسي الإيراني في العاصمة السورية دمشق، في 1 أبريل 2024. وقادت هذه الحادثة إلى أخطر مواجهة بين إيران وإسرائيل منذ أكثر من عقد من الزمن، حيث جاء الهجوم الإيراني ضد إسرائيل لأول مرة انطلاقاً من الأراضي الإيرانية. وأثارت الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، بما في ذلك الهجوم الإسرائيلي على مدينة أصفهان الإيرانية في 19 أبريل 2024، مخاطر نشوب صراع مفتوح بين الطرفين. ومع أنه يبدو أن طهران وتل أبيب تتبنيان خطوات لتجنُّب الدخول في حرب مفتوحة، إلا أن الجولة الأخيرة من المواجهة بينهما شكلت مرحلة جديدة في قواعد الاشتباك بين الدولتين. ويلوح في الأفق خطر الوقوع في حسابات خاطئة وحدوث مزيد من التصعيد، حيث يصبح هذا الخطر أكثر جدية في حال تخلّي إيران عن وضع العتبة النووية والسعي إلى امتلاك سلاح نووي.

وتراقب الدول الأوروبية الوضع عن كثب، إذ إن زيادة غير محسوبة في العداء بين طهران وتل أبيب قد تنطوي على انعكاسات خطيرة على جبهة “حزب الله”-إسرائيل، وجعل وضع الأمن البحري المضطرب أصلاً حول مضيق باب المندب وخليج عدن أكثر سوءًا. وعلى الرغم من عدم وجود إجماع في الاتحاد الأوروبي لشجب الهجوم الإسرائيلي في دمشق، فإن الاتحاد شجب بالإجماع الهجوم الإيراني ضد إسرائيل، وعبّر عن التزامه بأمن إسرائيل. وعلى رغم تراجع العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وإيران، وغياب أي نفوذ للاتحاد على كلٍّ من طهران وتل أبيب، فإن بإمكان الاتحاد تأدية دور مهم على المستوى الدولي لحث كلٍّ من بيجين وواشنطن لاستخدام نفوذهما على طهران وتل أبيب بالترتيب.

اقرأ أيضاً: حرب غزة المديدة تُملي تمديد إقامة جنوب لبنان في ملعب النار!

ويشهد الوضع الراهن تَشَكُّلَ تحالف بين الصين وروسيا وإيران في الوقت الذي تقدم فيه الولايات المتحدة دعماً عسكرياً كبيراً لإسرائيل. ونظراً للموقف الفريد الذي يحظى فيه الاتحاد الأوروبي بوصفه مُحاوِراً مع كل من بيجين وواشنطن فإن على الاتحاد استغلال هذا الدور المتوازن والمحافظة على قنوات الاتصال مفتوحة مع الطرفين للمساعدة في تشجيع الحوار بين الفاعلين الاقليمين ذوي الصلة، واحتواء التصعيد في المنطقة.

العداء بين إيران وإسرائيل: من “حرب الظل” إلى “معادلة جديدة”

عملت إيران وإسرائيل على مدى العقود الماضية على تطوير وتعديل عقيدتهما الدفاعية استناداً إلى سلوك وأفعال الدولة الأخرى، الأمر الذي قاد إلى مواجهة حملت اسم “حرب الظل” والتي تجري بشكل رئيس في دول أخرى، خاصة العراق وسورية ولبنان. وسمحت “حرب الظل” هذه لغاية الآن لكلٍّ من طهران وتل أبيب تبادل الهجمات استناداً إلى قدرة كل منهما على الإنكار المعقول دون المخاطرة بإطلاق شرارة حرب مفتوحة وشاملة، غير أن هذه المعادلة بدأت تتغير تدريجياً على مدى العقد الماضي.

ودفع انهيار “خطة العمل الشاملة المشتركة” لعام 2015 – بسبب انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاتفاق بشكل أحادي عام 2018، وإعادة فرض جميع العقوبات المعلقة على إيران – طهران إلى استئناف تخصيب اليورانيوم إلى مستويات متقدمة جعلها تقترب من العتبة النووية. كما أدى قرار طهران للتخلي عن التزاماتها بموجب “خطة العمل الشاملة المشتركة” إلى تكثيف تل أبيب عملياتها الاستباقية ضد البرنامج النووي الإيراني. وتتمثل أبرز الأمثلة على هذا باغتيال العالم النووي الإيراني البارز محسن فخرزادة على يد الموساد الإسرائيلي عام 2020، والهجوم ضد مُنشأة نطنز النووية عام 2021. وألقت إيران بمسؤولية الهجوم على إسرائيل.

وقامت إسرائيل بعمليات على مدى العقد الماضي استهدفت من خلالها مجموعات مدعومة من إيران، وعناصر تابعين لـ “حزب الله”، ومسؤولين بارزين في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني في سورية. وشهدت “حرب الظل” في سوريا تصعيداً كبيراً في أعقاب اندلاع الحرب في غزة، حيث أعاد الهجوم الذي شنته حركة “حماس” تحت اسم “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 إشعال العداوة القديمة بين إيران وإسرائيل. وتواجه طهران باستمرار اتهامات بالوقوف خلف هجوم “حماس” بالرغم من نفي إيران أي علم مسبق أو دور في هذا الهجوم. وتعُود الاتهامات إلى الدعم العسكري الذي تقدمه طهران للحركة الفلسطينية التي تتبع “محور المقاومة” الذي تقوده إيران. ولقي سيد رضي موسوي المسؤول العسكري البارز في “فيلق القدس” في بلاد الشام مصرعه في ضربة جوية إسرائيلية في ديسمبر 2023. كما لقي حجة الله أوميدفار مسؤول وحدة الاستخبارات في “فيلق القدس” مصرعه إلى جانب أربعة ضباط آخرين تابعين للحرس الثوري الإيراني في ضربة جوية إسرائيلية في يناير 2024.

وفي الوقت الذي لم ترد فيه إيران على تلك الجولة من الهجمات، غير أن قصف إسرائيل لمجمع السفارة الإيرانية في دمشق في 1 أبريل 2024، ومصرع أبرز قائد لـ “فيلق القدس” في بلاد الشام محمد رضا زاهدي، شَكَّلا نهاية لما تصفه طهران عادة بـ “الصبر الاستراتيجي”.

واعتبرت طهران قصف المجمع الدبلوماسي الإيراني في سورية – الذي يُعَدُّ “أرضاً إيرانية” بموجب القانون الدولي – تجاوزاً لأحد الخطوط الحُمْر. وشَكَّلَت عملية “الوعد الصادق” في 13 أبريل 2024 أول هجوم مباشر ضد إسرائيل انطلاقاً من الأراضي الإيرانية، ما دفع بالتصعيد إلى مستوى خطير مع احتمال اندلاع حرب إقليمية شاملة. ومع ذلك، أشار وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى أن بلاده أشعرت دول المنطقة بالهجوم قبل 72 ساعة من وقوعه، وأن رسائل تُبودِلت مع الولايات المتحدة قبل الهجوم. 

كان الهدف الأساسي لإيران من ذلك الهجوم بعث رسالة وليس الدخول في حرب مع تل أبيب وواشنطن. وكان الهدف من إطلاق أكثر من 300 طائرة مُسيّرة وصاروخ هو استعادة الردع الإيراني. كما بدا أن الرد الإسرائيلي الذي وقع في الساعات الأولى من يوم 19 أبريل على أصفهان، المدينة التي تضم المنشآت النووية الإيرانية، لم يكن الهدف منه إشعال حرب شاملة في المنطقة، بل توجيه رسالة بقدرة تل أبيب على اختراق منظومة الدفاع الجوي الإيرانية. وتجدر الإشارة إلى أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أكّدت عدم حدوث أي أضرار في المنشآت النووية الإيرانية. ولدى إسرائيل تاريخ في تنفيذ مثل هذه الهجمات، كما حدث في كرمانشاه في فبراير 2022، وأصفهان في 2023. ومع ذلك، وعلى الرغم من التقارير التي تحدّثت عن هجوم إسرائيلي على نظام رادار لبطارية دفاع جوي روسية الصنع، فإن السلطات الإيرانية خفّفت من حجم الهجمات الإسرائيلية التي شملت أيضاً طائرات صغيرة رباعية المروحيات من دون طيار. وفي حين أنه من غير المُرجّح أن تكون هذه هي نهاية الهجمات الانتقامية المُتبادلة بين إيران وإسرائيل، وأن خطر تنامي التصعيد لا يزال قائماً، يبدو أن كلاً من إيران وإسرائيل تتبنّيان إجراءات تهدئة.

الموقف الأوروبي من الجولة الأخيرة من التوتّرات بين إيران وإسرائيل

تُراقِب أوروبا عن كثب وبقلق بالغ التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل. ودان أعضاء الاتحاد الأوروبي بشكل جماعي عملية القصف في دمشق باعتباره خرقاً للقانون الدولي، داعين جميع الأطراف إلى ضبط النفس. ومع ذلك، لم يدينوا إسرائيل، وعرقلت فرنسا، إلى جانب بريطانيا والولايات المتحدة، اقتراح مجلس الأمن الدولي المدعوم من روسيا والذي كان من شأنه أن يُلقي باللوم على تل أبيب. من ناحية أخرى، وبعد عملية “الوعد الصادق”، ندّد الاتحاد الأوروبي بشدّة بالهجمات الإيرانية بالطائرات المُسيّرة والصاروخية، مؤكداً التزامه بأمن إسرائيل. كما شاركت الدول الأوروبية – لاسيما فرنسا والمملكة المتحدة – بفعالية في احتواء الهجوم الإيراني، سواء من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية مع إسرائيل، أو من خلال اعتراض تلك الهجمات ضمن تحالف من الشركاء الإقليميين والدوليين. 

وفي الأيام التي أعقبت العملية العسكرية الإيرانية، بدأت المُناقشات في بروكسل تدور حول ضرورة توسيع وتشديد القيود وفرض عقوبات جديدة على إيران. وفي خلال اجتماع وزراء الدفاع والشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، في 22 أبريل، تم التوصّل إلى اتفاق سياسي مبدئي على تشديد العقوبات للحد من صادرات المُكوّنات المصنوعة في الاتحاد الأوروبي والمُستخدمة في تصنيع الطائرات من دون طيار والصواريخ الباليستية. وعلى مدى الشهرين الماضيين، بدأت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في مُناقشة جادة لإمكانية تصنيف الحرس الثوري الإيراني رسمياً مُنظّمة إرهابية. وفي سياق منفصل، فرضت لندن وواشنطن بالفعل عقوبات جديدة على الكيانات الإيرانية المُشاركة في صناعات الطائرات من دون طيار والصواريخ الباليستية وإنتاج الصلب. مع ذلك، فإن تشديد العقوبات لن يولّد الكثير من الضغط على إيران بسبب عزلة البلاد شبه التامة عن الغرب منذ تولّي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي منصبه. 

من الضروري النظر في العديد من العوامل التي تسبّبت في تغيير نهج أوروبا تجاه إيران؛ فقد أدّى فشل إيران في إنهاء المفاوضات النووية لإحياء خطة العمل الشاملة المُشتركة خلال صيف عام 2022، عندما بذل الاتحاد الأوروبي الكثير من الجهود الدبلوماسية للتوصّل إلى اتفاق تسوية جيّد، إلى تراجُع انخراط أوروبا في هذا الملف. والملف النووي الإيراني مثّل أحد أكثر القضايا حساسيةً بالنسبة للأوروبيين؛ فلطالما اتّبعت الدول الأوروبية الثلاث (المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي) نهج الدبلوماسية أولاً، ولم تدعم أبداً استراتيجية “الضغوط القصوى” التي مارسها الرئيس الأمريكي ترامب في التعامل مع البرنامج النووي الإيراني. ومع ذلك، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 مثّل نقطة تحوّل في علاقات أوروبا مع إيران، ما جعل التعامل مع طهران مسألة مُثيرة للجدل للغاية.

فقد أصبحت إيران المورّد الرئيس للطائرات من دون طيار إلى روسيا، ويقال إنها تُقدّم المُساعدة التقنية لموسكو لبناء منشأة لإنتاج الطائرات من دون طيار. كما تم التأكيد مؤخراً على تطوير العلاقات الإيرانية – الروسية إلى شراكة استراتيجية من خلال الاجتماع الذي عُقد مؤخراً في موسكو بين أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي أكبر أحمديان، ونظيره الروسي لِمُناقشة التعاون العملي في قطاع الأمن. وكلما اقتربت إيران من روسيا، حيث تحتل موسكو فعلياً أراضي أوروبية الآن، أصبحت إيران أبعد عن أوروبا. علاوةً على ذلك، يتعيّن على الحكومات الأوروبية أن تتجاوب مع مخاوف الرأي العام الأوروبي بشأن القمع العنيف الذي تُمارسه السلطات الإيرانية منذ سبتمبر 2022، بخاصةٍ ضد الشابات الإيرانيات، وكذلك سجن المواطنين الأوروبيين بتهم زائفة، لاستخدامهم ورقة مُساومة. ودعم إيران العلني لحركة حماس في اليوم التالي للهجوم الصادم ضد المدنيين الإسرائيليين في 7 أكتوبر الأول، قد أثّر في الرأي العام الأوروبي.

مع ذلك، فإن العواصم الأوروبية، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، على قناعة تامة بأن التصعيد العسكري الذي يشمل إيران لا يُمكن أن تكون له سوى تداعيات سلبية مُحتملة على الاستقرار الإقليمي، ما سيدفع المنطقة إلى مزيد من الفوضى والعنف، ويُعرقل بشدة المصالح الأوروبية المُرتبطة بالسلام والازدهار في جوارها الجغرافي، كما ستكون هناك أيضاً انعكاسات على تفاقم التوتّرات بين القوى العظمى، التي يتجلّى تنافسها بالفعل في الشرق الأوسط؛ فمع تشكيل الصين وروسيا تحالفاً مؤيّداً لإيران وتقديم الولايات المتحدة دعماً عسكرياً غير مشروط لإسرائيل، فإن خطر تنامي الانخراط العالمي في الصراع الإقليمي أصبح كبيراً. وتُريد كلٌّ من الصين وروسيا الاستفادة من أي تصعيد إضافي في المنطقة لتحويل انتباه الولايات المتحدة عن أوكرانيا وكذلك بحر الصين الجنوبي. وفي المُقابل، تحرص الولايات المتحدة على أن تُظهر لحليفتها الإقليمية الأولى، إسرائيل، أنها – على الرغم من انكفائها العام عن المنطقة – لا تزال داعماً موثوقاً به تماماً في أوقات الأزمات. وبالنظر إلى حساسية الناخبين الأمريكيين تجاه أمن إسرائيل، فإن هذا الشعور بالمسؤولية تجاه تل أبيب يكتسب أهمية خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المُقبلة، المُقرّر إجراؤها في نوفمبر 2024.

ومع ذلك، يُمكن إقناع كلٍّ من الصين والولايات المتحدة بأن التصعيد الكامل وغير المُنضبط ليس في مصلحتهما؛ فبيجين قلقة من الانهيار المُحتمل لاتفاق التطبيع الإيراني-السعودي، الذي توسّطت فيه في مارس 2023 وتعتبره نجاحاً صينياً كبيراً. وفي المُقابل، لا ترغب إدارة بايدن في الانجرار إلى مواجهة أوسع نطاقاً مع إيران في خلال موسم انتخابي، ولا تريد أن تُجبَر على نقل أصولها العسكرية إلى الشرق الأوسط تاركةً المجال واسعاً لروسيا والصين في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. ولدى أوروبا الوسائل اللازمة للاستفادة من هذه المخاوف الصينية والأمريكية لإبقاء التواصل قائماً بين الطرفين، وحثّ القوتين العالميتين على استخدام نفوذهما الدبلوماسي مع إسرائيل وإيران لاحتواء التصعيد في المنطقة.

الاستنتاجات

في خضمّ جولة التصعيد الأخيرة بين إيران وإسرائيل، وفّر المنتدى رفيع المستوى بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي حول الأمن والتعاون الإقليمي ،الذي عُقد في لوكسمبورغ في 22 أبريل، منصّة مُهمّة لتعزيز التنسيق بين الجانبين حول القضايا الأكثر إلحاحاً، والعمل معاً لإيجاد سبل مُستدامة لحل الأزمات الإقليمية. وهذا الأمر يتطلّب أولاً أن تكون أوروبا لاعباً ذا مصداقية في نظر دول الخليج العربية، وأن تؤدي دوراً أكثر استباقية ودعماً للدبلوماسية العربية لإنهاء الحرب في غزة. علاوة على ذلك، ينبغي على الأوروبيين تطوير طُرق مُبتكرة للحفاظ على الانفراج في العلاقات الخليجية-الإيرانية الذي سيكون ضمانة مُهمّة لتجنّب تمدّد الصراع إلى ساحات إقليمية أخرى، لاسيما في بلاد الشام والبحر الأحمر. لكن يجب أن يكون العمل الدبلوماسي المُنسّق الذي يحدث بالتوازي على المستوى الإقليمي والعالمي هو الهدف النهائي.

السابق
توقيف 37 مطلوبًا يعملون بِترويج المخدرات في شاتيلا
التالي
بالصور.. ميقاتي في قمة البحرين: نطالب بالضغط على اسرائيل لوقف اعتداءاتها على لبنان وتطبيق ال 1701