وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: الإجماع والشرعية أساسا كل فعل مقاوم

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

ما يجري في الجنوب على يد إسرائيل، من قتل وتدمير واعتداءات، تجاوز الوصف. وأهل الجنوب في القرى الحدودية، يواجهون بصبر ومزيد من الإصرار، على التمسك بالأرض والحياة معاً.

المفارقة، أن ما يحصل في الجنوب غير ذي صلة، ومنفصل بالكامل عن كل الفاعليات التي تحصل على باقي الأراضي اللبنانية، بخاصة بيروت.

كأن أحداث الجنوب تحصل في بلد آخر، أو كأن هنالك مجتمعان، لكل منهما اهتماماته

فالنشاطات والاحتفالات ومظاهر الفرح، فضلا عن مسار الحياة الاعتيادية، من زحمة سير وحركة مطاعم وسياحة وانشغالات يومية، نجدها جميعاً قائمة وفاعلة، ولا يعكرها أو ينغصها شيء. كأن أحداث الجنوب تحصل في بلد آخر، أو كأن هنالك مجتمعان، لكل منهما اهتماماته وهمومه وأولوياته، مختلفة عن الآخر.

قد يرى البعض أن ذلك علامة صمود وتحد، بأن جبهة الجنوب لن تحول دون استمرار مظاهر الحياة والإنتاجية، في الأماكن والمدن اللبنانية الأخرى، ولن تتسبب بتعطيل سير عمل مؤسسات الدولة. وقد يراها البعض الآخر لامبالاة وانعدام التعاطف والمؤازرة، من باقي المكونات اللبنانية لما يحصل في الجنوب اللبناني.

لكن حقيقة الأمر أن كلا الرأيين لا يعبران عن حقيقة الواقع، ولا يفسران الانقسام الحاصل في الموقف من جبهة الجنوب التي يخوضها “حزب الله” ضد إسرائيل، تحت عنوان “الإسناد والدعم” لأهل غزة.

الوضع الاجتماعي الحالي، يعكس واقع الانقسام السياسي في لبنان

فالوضع الاجتماعي الحالي، يعكس واقع الانقسام السياسي في لبنان، في تقرير مستوى ودرجة دعم أهل غزة، ضد جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. التباين في درجات التفاعل مع أحداث الجنوب، والانقسام الحاصل بين مؤيد لجبهة “الدعم والإسناد” ومعارض له، مرده إلى غياب الإجماع الوطني عليه، وعدم صدوره من الجهة الرسمية الوحيدة التي تمثل الشعب اللبناني بأسره، وصاحبة الحق الحصري في فتح جبهات خارجية، التي هي الدولة اللبنانية.

قرار “الدعم والإسناد” فقد اتخذه “حزب الله” بالمشاركة مع حلفاء إقليميين

لن تجد لبنانياً لا يتعاطف مع أهل غزة، أو يتردد في إظهار الدعم والتأييد والإسناد. لكن الخلاف العميق يعود إلى درجة وطبيعة التأييد والإسناد، الذي يمكن القبول به من دون أن يتسبب بأثمان عالية ومكلفة، على لبنان وعلى أهل الجنوب. فقرار المواجهة، يكون ثمرة تفاعل وتأييد مجتمعي شبه كامل، لغرض تأمين التماسك الداخلي وتوفير مقومات الصمود والدعم الخلفي، أما قرار “الدعم والإسناد” فقد اتخذه “حزب الله” بالمشاركة مع حلفاء إقليميين، وكان متزامنا مع عمليات الحوثيين في البحر الأحمر، وعمليات الميليشيات العراقية التابعة لإيران ضد الأمريكيين في سوريا والعراق. كان كل ذلك برعاية وتنسيق وتوجيه إيراني واضح.

قرار الجبهة الجنوبية، اتخذ وفق استراتيجية إقليمية أجنبية، ونفذ على أرض لبنان، من دون أن تراعى فيه الخصوصية اللبنانية، أو يُطرح محلياً للنقاش والبحث والإطلاع الداخلي، أو يكون للبنانيين من قوى وممثليات ووسائل إعلام، أي رأي أو مشاركة أو استشارة. بالتالي كان القرار فاقداً لطبيعته الوطنية، لجهة عدم استناده إلى معطيات اجتماعية وسياسية واقتصادية واستراتيجية خاصة بلبنان، ولجهة غياب العمق الإجتماعي، بما فيه العمق الشيعي الجنوبي، لكون القرار قد نوقش وبُحِثَ وحُسِم خارج لبنان. هي مفارقة تسببت بانقسام عامودي داخل لبنان، ليس بين السياسيين فحسب، وإنما داخل المجتمع اللبناني، لشعور أكثر مكوناته بأن ما يجري في الجنوب، ليست حربه وغير معني بها.

المفارقة الأشد حرجاً، هي غياب الدولة اللبنانية عن مجريات هذه الجبهة، سواء لجهة إطلاقها أو إدارتها أو قرار إنهائها. أن يعلن حزب مسلح داخل دولة شرعية حرباً، أو يفتج جبهة لا تتصل بأوضاع دفاعية طارئة، ومن دون أن يكون لهذه الدولة قراراً أو رأياً أو كلمة نهائية في الأمر، هي ظاهرة غير مسبوقة في حقائق وبنية الدول، ومناقضة لمبدأ سيادة الدولة نفسها، الموكل إليها حصراً مهمة حفظ الأمن الداخلي والخارجي.

المفارقة الأشد حرجاً، هي غياب الدولة اللبنانية عن مجريات هذه الجبهة، سواء لجهة إطلاقها أو إدارتها أو قرار إنهائها

غياب العمق الإجتماعي الذي هو أساس التماسك الداخلي، إضافة إلى غياب الصفة الشرعية (الدستورية والقانونية) لمطلقي جبهة المواجهة في الجنوب، هما السببان الرئيسيان في تباين المواقف وهشاشة التضامن، وضعف التأييد الداخلي للمواجهة الجارية في الجنوب اللبناني، الذي وصل إلى درجة اللامبالاة عند البعض. هي وضعية جعلت مسار هذه الجبهة معزولاً ومنفصلاً عن مجريات الداخل، وفاقم من حال الانقسام الداخلي، بل أدى إلى تعطيل عمل الدولة، بعدما تم تأجيل جميع الاستحقاقات الدستورية، من انتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة شرعية، إلى ما بعد حرب غزة.

الإجماع والشرعية اساسا كل فعل مقاوم أو مجهود حربي، ولا يمكن الإلتفاف عليهما أو مصادرتهما، مهما كان نُبل القضية وتسامي المبدأ. وإذا كان أساس دعم ومساندة القضية الفلسطينية، هو إقامة كيان سياسي شرعي ذو سيادة للشعب الفلسطيني، فإن نقض العقد الاجتماعي في بلد آخر، وتقويض سيادة دولة أخرى قائمة، وانهيار مؤسساتها بحجة “الإسناد والدعم”، يناقض جوهر الحق الفلسطيني نفسه. فالشرعية لا تبنى على قواعد غير شرعية، ومشروع الدولة المأمولة للشعب الفلسطيني، لا يمكن أن يؤسس على منطق اللادولة.

السابق
صدور العدد الجديد من المجلة الالكترونية الدورية «الحقيقة»
التالي
شيعة لبنان «يتخبطون» في دوامة حروب لا تنتهي!