
صاحبة القامة القصيرة بجسدها النحيل، كانت وارفة على أجيال ساهمت بتجديد الأساليب الفنية بحيوية مختلفة.
كبيرتنا الفنانة ايفيت أشقر،ترحل اليوم وتختتم مسافة قرن من العمر والحياة والفن (مولودة-1928) بعدما أسست للحداثة الفنية في التجريد والأساليب والمدارس الفنية.
ولا بد أن نذكر كبارا من أبناء جيلها جدد في الرسم والفن: عارف الريس وحليم جرداق وشفيق عبود وإيلي كنعان وميشال بصبوص وسلوى روضة شقير وفريد عواد وبول غيراغوسيان. جيل من الفنانين الذين قدر لكل واحد منهم أن يكون في ما بعد علامة شاخصة في تاريخ الفن التشكيلي في لبنان، وكانت إيفيت أشقر ابنة ذلك الجيل العظيم.
نعمت ساوباولو (البرازيل) التي ولدت فيها الراحلة في العام 1928. درست الفن في الأكاديمية اللبنانية (ألبا) وجدت نفسها منذ البدء في مواجهة اختبار حقيقي. فقد كان ظهورها فنيا في تلك الحقبة المكتظة بالفنانين الكبار ، قد وضعها في مواجهة تحد، لم يكن من اليسير اختراقه. كان السؤال الملح يومها “كيف يتمكن الفنان من أن يكون طليعيا؟”.
ولم تتأخر أشقر بالجواب،”نرسم لنجدد ونتفكر ونبحث عميقاً في تخوم ألوان الحياة”.

اختارت أشقر أن تتخذ من الأسلوب التجريدي طريقا لها لتصل من خلاله إلى تعريف العالم الذي تراه والتعريف به من خلال إيقاع شاعري أضفت عليه الأنوثة الكثير من رقتها وصفاء حكمتها،وبلاغة أسلوبها.
من حسن حظي أنني تعرفت على الراحلة، والتقيتها وحاورتها مرات عديدة،وتعلمت منها الكثير،واكتشفت انني أحادث وأجالس سيدة متفوقة بجمال روحها،وكم كنت أشعر أنني أجالس سيدة الشباب، لا الشيب أبعدها،ولا قامتها النحيلة أضعفتها.
لقد استحضرت أشقر عالماً فنياً كاملاً. ألوانه وأشكاله ومفرداته بمثابة لغة معنى وتوصيف لما حدث وسيحدث.كأنها كتبت وقائع الزمن المقبل.
كشفت وربما جاهرت إيفيت بتأثّرها بالتجارب التجريدية الرئيسة التي صنعت منعطفات أساسية في تاريخ الفن الغربي، وهو ما لم تجده مناقضا لشغفها بالفن الشرقي، بنزعاته وميوله التجريدية. وهذه النقلة النوعية في الفكر والتفكر جعلها أشبه بحالة متفردة في خوض عملية التجريب المفعل والعميق.
فقد نجحت بهدم الشكل ولم تكترث “للإنصياعات” الفنية ولم يشغلها شيء بقدر ما شغلها الإنصات إلى الموسيقى التي تنبعث من الداخل،من عميق النفس والانسان. كانت لوحتها تمتليء فورا،كما انها تفرغ فورا، عبر عمليات الإضافة والحذف تبعا لانفعالها بالواقع والوقائع والتحولات اليومية.
لوحات تتميز بخصائص جديدة،وبزهد واضح في الألوان والأشكال والمساحات. ذهبت إلى احتمالات الشكل حتى أنها لامست احتمالات الصوت المبثوث في الشكل.
حساسية هائلة تجسدت لديها، استجابت لأمزجة مختلفة،ولخيال عظيم. ففي عقلها الباطني نذير اكتشاف ،ما يجعلها قادرة على استشعار ولادة الشكل قبل أن تقدم على هدمه.
تنحني وتتسطح وتميل وتتحرك رسومها بخفة مذهلة بين الهدم والبناء في جدل غير سكوني، عنكبوتي التوصيف.
تراث الشرق أكسبها جمالياته فاستوعبت الأمر وانتقلت الى مواجهة الفكر المادي المهيمن. كان لديها الكثير من العاطفة في دفاعها عن عالمها،عالم الروح التي تتحرك في مزايا الحياة وحريتها.
لم تقلد الطبيعة صوريا،لم تنسخها،ولم تتقصد الهروب،الطبيعة في رسوماتها هي الأنوثة بأكملها، بذروتها الصاخبة.
احترمت الراحلة حرية المشاهد الذي سينظر باحترام إلى حريتها. وكانت تقول :” الحرية رسالة”. لذلك فإنها تسعى من خلال كل ما تفعله إلى تحرير مشاهدها من التعلق بالصورة. “عليك أن تنساها لتكون لديك صورتك الخاصة عن العالم.” تلك هي وصيتها.