ذكريات مشرقة مع السيّد محمّد حسن الأمين

عرفتُ السيّد محمّد حسن الأمين مفكراً أصيلاً عميقاً وشاعراً مطبوعاً. وازداد إعجابي بفكره وأدبه وثقافته عندما علمتُ أنه شيخٌ معمَّم. جالت في خاطري أسماء أُخرى، منها السيّد هاني فحص والمطران جورج خضر. هؤلاء جميعاً تجاوزوا “الناموسيّة”، أي النزعة التي تُعلي الحرف على الروح، خصوصاً في شؤون الدين.

لقائي الأول بالسيّد المتنوّر المنوِّر كان عند صدور كتابي “المقدمة في فلسفة الدين” عام 1994.

أدركَ الراحل الكبير منح الصلح، المفكر وراعي الثقافة، أهمية الكتاب، واقترح عقد لقاء واسع في دار الندوة حوله. وكان السيّد بين الذين تناولوا الكتاب. وجد فيه “إنجازاً كبيراً في إعادة الاعتبار إلى العقل وإلى الدين معاً”، وأنه، “بهذا، يؤكد مرجعية العقل للفلسفة والدين معاً، خلافاً لبعض الانطباعات السطحية الشائعة التي تربط الفلسفة بالعقل وتنفي علاقة العقل بالدين”. وحدّد “الأهمية البالغة” للمقدمة في كونها عملاً تأسيسياً يملأ “الفراغ المخيف” في الفكر الديني العربي. كما توقف عند “حيوية التعبير التي تقلل كثيراً من جفاف الفلسفة وصرامة التجريد”.

في ندوة دار الندوة في بيروت حول “المقدمة في فلسفة الدين”: من اليسار: د. سامي مكارم، د. أديب صعب، العلّامة السيد محمد حسن الأمين، الأستاذ محمد السماك، المطران جورج خضر، اللاهوتي د. جورج صبرا

بعد ذلك كانت لنا لقاءات فكرية وأدبية. جمعَتْنا جلسة شعرية في محترف الفن التشكيلي في راشيّا (الوادي)، بضيافة مؤسسه الرسام المبدع شوقي دلال. كنا ثلاثة، قرأ كل واحد مقتطفات من شعره: السيّد الأمين والمطران جورج خضر وأنا، علماً أن كتابة المطران جورج الشعرية تندرج تحت الشكل المسمَّى “قصيدة النثر”. وهي نصوص جمعها لاحقاً في كتابٍ جميلٍ أنيق،أعطاه عنوان “نجاوَى”.

كما جمعتنا ندوة حول كتاب متعلق بالصوفية، وكنتُ مجاوراً للسيّد في جلوسي على منصّة الكلام. جاء دَور أحد المشاركين، وهو أُستاذ للتصوف ومؤلف معروف في هذا الموضوع. راح زميلنا المتكلم يروي أبياتاً لبعض الشعراء العرب الصوفيين، وكان كل بيت يَحمل كسْراً وزنياً، طبعاً لا في أصله بل في روايته. لم نتحمّل كلانا هذه المَهانة للعلم قبل الشعر. أقول “للعلم” (المعرفة) لأن مقداراً كبيراً من التصوف الاسلامي مصنوعٌ من روائع الشعر الموزون، وبين صنّاعه موهوبون كبار مثل الحلّاج وابن عربي وابن الفارض والسهروردي.

لذلك لا يجوز أن ينال درجة جامعية عليا في التصوف الاسلامي ويكتب دراسات ويؤلف كتباً عنه مَن لا يتقن معرفة الشعر العربي وأوزانه ويستطيع رواية أبياته سليمةً من كل عيب. هذه الأفكار دارت بين السيّد وبيني في القاعة بعد انتهاء الندوة. وكنا، مع كل انتهاك لوزن الشعر خلال كلمة الزميل، يخاطب واحدنا الآخر، متعجباً ومستنكراً، بالكتابة على ورقة. هنا تجدر الاشارة إلى أن عدداً من أساتذة الأدب الجامعيين شوّهوا الكثير من أبيات الشعر الجميلة بروايتها محرّفةً تحريفاً يَكْسر أوزانها. وتتفاقم محنة العلم والشعر والجمال عندما يأخذ “الدارسون” أو “المتذوّقون” اللاحقون هذه الاستشهادات الشعرية عن مرجعها الركيك من غير رجوع إلى مصدرها الأصيل، فيرتحل الخطأ من نص ورقي أو ضوئي إلى نص آخر.

مرةً دعاني السيّد إلى منزله، حيث عُقِدَت ندوة حول راهنيّة الفكر العربي الاسلامي، شارك فيها، إلينا، السيّد هاني فحص والدكتور عبد الجبار الرفاعي، الذي نشرها في مجلته “قضايا إسلامية معاصرة”، وآخرون. مما طرحه لقاؤنا مسألة الخوف من العقل لدى بعض ممثلي الدين والفكر الديني.

كان المنتدون على اتفاق حول أهمية تفسير النصوص المُنْزَلة لتنسجم مع “الروح” لا “الحرف”، بعيداً عن الناموسية أو الشكلية أو الحَرفية، التي تميِّز النزعات “الأُصولية”. لا أدري كيف نصرتني البديهة في إحدى مداخلاتي، فتذكرتُ ما جاء في القرآن الكريم عن مفهوم الوَحي وعن تكليف الله للانسان أن يكون “خليفة” له في الأرض. وكانت عبارة وُلِدَت بعفوية في ذلك البيت الكريم وحفاوة سيّده: “لئن كان ربُّكَ يُوحي إلى النحل، كما يوحي إلى كل خلائقه بما فيها الحيوان والنبات والجماد، أفَلَن يوحي إلى عقل مَن ليس بأقلّ من خليفته في الأرض؟”.

عبقرياً كان السيّد محمّد حسن الأمين في فكره الديني والاجتماعي وفي شعره، وإنْ كان، حسب وصف المطران جورج خضر لنفسه، “في ضيقٍ مع عبقرية هذا الدهر”. أوَليس هذا “الضيق” بعض ما يلازِم المحبة والصدق والشفافية والتواضع وعدم المساومة، وهي من صفات الراحل الكبير، الذي حصلت وفاته وهو في أوج عطائه، وسط جائحة قضت على عدد غير قليل من الأحبّاء؟ وتبقى كتابات السيّد المتنورة مصداقاً لعبقريته ونموذجاً فكرياً ساطعاً للأجيال.

السابق
السيد الشاعر محمد حسن الأمين العمامة العلم.. سنة ثالثة غياب!
التالي
خاص «جنوبية»: سليمان قُتل بضربة على الرأس.. هل لوظيفته المصرفية علاقة بالجريمة ولاقى مصير زميله داغر؟!