المرأة المتعلمة.. صانعة المجتمعات

إمرأة تضع يدها على عينيها (iStock)

متحدية كلّ العوائق التي وضعتها المجتمعات الذكورية المتخلّفة، اقتحمت المرأة بجرأة وثبات ميدان المجالات العلمية والثقافية، متخطية العقبات، كاسرة القيود التي أدت إلى إقصائها بعيداً عنه، لتفرض نفسها رقماً صعباً في كافة العلوم، وعنصراً أساسياً في تقدم البشريّة وتطوّرها. مميطة اللثام عن آلاف الاكتشافات والاختراعات والأبحاث العلمية التي أغنت العالم بأسره. فسَمَت وتألقت بإنجازاتها الاستثنائيه، تاركة للأجيال القادمة أثراً جميلاً وإرثاً علمياً عظيماً.

المرأة عبر العصور

ساهمت المرأة عبر العصور بشكلٍ كبيرٍ في الكثير من الإنجازات الهامة، في مجالي العلوم والتكنولوجيا. ففي عام 2500 ق م أي قبل حوالي 5000 سنة، اشتهرت “مريت بتاح” في مصر (أحد الأطباء الأوائل في العالم) بكونها ربما تكون أول امرأة طبيبة في التاريخ، وفي عام 1200 ق م عُرِفت “تابوتي” (صانعة العطور في بلاد ما بين النهرين) كأول كيميائية في العالم، أما “ثيانو” عام 500 ق م، فلعلها كانت أول امرأة عملت بالبحث في مجال الرياضيات، ثيانو التي كانت واحدة من تلامذة مدرسة فيثاغورث، ومن أبرعهم في مجالي الهندسة والأعداد اضافةً إلى الفلسفة، وقد تزوجها فيثاغورت الذي عُرِف بـ “الفيلسوف النسوي”، لأنه كان يسمح بأن تلتحق النساء بمدرسته، بل كان يشجعهن على الدراسة ومواصلة البحث والتعليم.

في عام 1699 كانت عالمة الحشرات الألمانية ماريا سيبيلا ماريان، أول عالم يوثّق دورة حياة الحشرات، وعام 1732 أصبحت الفيزيائية الإيطالية لورا باسي أول أستاذة فيزياء في العالم، واكتشفت عالمة الحفريات الإنجليزية ماري آننغ عام 1823، أول حفرية بحرية في العالم، بينما كانت سميرة إسلام عام 1970، أول شخص سعودي يحصل على دكتوراه في علم الصيدلة، فضلاً عن آلاف الإنجازات، والاكتشافات، والاختراعات التي لا يكفي المقال لذكرها، والذي يعود الفضل بها إلى المرأة، كمبتكرة أو كمساهمة في الابتكار، لتقدم للبشرية باقة غنية وثروة علمية في شتّى المجالات.

المرأة في الإسلام

اعتبر الإسلام طلب العلم فريضة، كما جاء في الحديث عن رسول الله (ص) حيث قال (ص): “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة”، والفرض يعني الوجوب، فهو واجب شرعي على كل مسلم ومسلمة، حاله حال الصلاة والصوم وغيرهما من الفرائض التي في تركها عمداً إثم ومعصية للّٰه سبحانه وتعالى.

لقد شدد الإسلام على أهمية التعليم خاصة بالنسبة للمرأة، التي حرص رسول الله (ص) على العناية بها، لدورها العظيم والمؤثر في بناء الأسرة والمجتمع. فهي مربية الأجيال وحاضنتهم، إن فسدت فسد، وإن صلحت صلح. وفي ذلك يقول الشاعر حافظ ابراهيم: “الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق”. إذاً، المرأة هي أمك، وأم أولادك، وأم أحفادك، وأمهات أبناء مجتمعك، فماذا لو أعددناها إعداداً صحيحاً؟؟ حتماً سيتغير المجتمع ويتطور ويزدهر.

وقد اضطلعت المرأة في الإسلام بدورٍ جليٍ، منذ بداية الدعوة حيث برزت أسماء لعديدٍ من النساء، اللواتي كن مثالاً في التعلم ونشر العلم والثقافة، والوعي وقيادة المجتمع وإرساء القواعد الإسلامية الصحيحة ومن هذه الأسماء:

١ – السيدة خديجة بنت خويلد(رض) هي أم المؤمنين وزوج رسول الله (ص) من سادات قريش وأشرافها، عالمة، فاضلة، عملت في التجارة، ووقفت إلى جانب زوجها رسول الله (ص) في دعوته، وساندته، ودعمته، فكانت أول من آمن به وبرسالته، وأنفقت كل ثرواتها في سبيل انجاحها، حتى قال فيها رسول الله (ص): “ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين: مال خديجة وسيف علي”. وعنه (ص): “…آمنت بي اذ كفر الناس، وصدّقتني وكذّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس…”

٢ – السيدة فاطمة الزهراء (ع): هي سيدة نساء العالمين وابنة رسول الله الكريم (ص)، بلغت المرتبة العليا من مراتب العلم والاجتهاد، فقد نهلت علومها من أبيها (ص) مدينة العلم، وكانت أول كاتبة في الإسلام، اتخذت من بيتها منبراً لتبليغ الرسالة الإلهية، فكانت تقصدها النساء يطلبن العلم، فتعلمهن، وتثقفهن، حتى التف حولها نساء قومها، بعدما وجدوا عندها من رحابة الصدر، وغزارة العلم، وحُسن الخُلق.

٣ – السيدة زينب الكبرى (ع): أمها الزهراء (ع)، أبوها علي بن أبي طالب (ع)، عالمة، عابدة، محدثة، فقيهة، عقدت مجالساً لتفسير القرآن الكريم في مسجد الكوفة إبان حكم أبيها، فاجتمعت حولها النسوة تعلمهن، وتفقههن، وقد عُرفت بفصاحتها وبلاغتها، ولعل أكبر دليل على ذلك، خطبها في الكوفة والشام بعد حادثه كربلاء، التي كانت (ع) شريكاً أساسياً في نجاح أهدافها جنباً إلى جنب أخيها سيد الشهداء الإمام الحسين (ع)، إضافة إلى ذلك، فقد كانت (ع) صاحبة كلمة وموقف، لا تخشى في الله لومة لائم، فهزت العرش الأموي ما اضطرهم إلى نفيها خارج المدينة المنورة على قولين، أحدهما إلى مصر و الآخر إلى الشام.

فضلاً عن عشرات العالمات الفاضلات اللواتي نشطن في المجالات العلمية، والثقافية، والاجتماعية، كالسيدة نفيسة بنت الحسن (ع) ، والسيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم(ع) الملقبة بـ”المعصومة”، و السيدة شريفة بنت الإمام الحسن (ع). ولقد دأب علماؤنا الكبار في حث المرأة على التعلم والتطور، فشجعوها وأثنوا على نجاحاتها، وبعضهم اعتبرها ركناً أساسياً في مشروع التجدد الحضاري للمسلمين، كما عبر المفكر الكبير العلامة السيد محمد حسن الأمين (قده) حيث قال: “إن مشروع التجدد الحضاري للمسلمين يجب أن تكون المرأة فيه ركناً أساسياً، وأن نستخلص منظومة قيم إسلامية تجاه المرأة تختلف عن منظومة القيم التي يعتمدها المجتمع الذكوري”.

بين الأمس واليوم

بمراجعةٍ مبسّطة للتاريخ، نجد أن السبب الرئيس لانهيار الأمم السابقة، وتفكك مجتمعاتها هو تجهيل المرأة، عبر الاستخفاف بها، وتقييد طاقاتها، من خلال حرمانها من أبسط الحقوق، كطلب العلم، واكتساب المعرفة، وغيرهما من الحقوق التي جُعِلت حكراً على الرجل، بينما حُصِر دور المرأة -مع الأسف- في المطبخ.

واليوم، وعلى الرغم من التقدم العلمي، والتطور التكنولوجي، الذي تُعدّ المرأة -كما أشرنا أعلاه- شريكاً أساسياً فيه، إلا أننا ما زلنا نراها في مجتمعنا متأخرة كثيراً عن نظيراتها في المجتمع الغربي، لأن المجتمع الشرقي كان للأمس القريب، يعتقد أن المرأة لم تُخلق للعلم، بل للبيت وللزوج، وهو ما عُدنا نسمع به مجدداً، لعلّه بسبب الأزمات المتعاقبة التي ما زالت تعصف بالمنطقة، لا سيّما المادية منها، إلا أنه -وعوضا عن ذلك- يجب أن نسعى بجدٍ لتعليم المرأة، وتثقيفها، وتوعيتها، وبنائها بناء متكاملاً، بحيث يكون بمقدورها أن تشارك الرجل في خلق الحلول البناءة للتعافي من تلك الأزمات تمهيداً للعبور نحو مستقبل زاهر ومجتمع متطور.

دعم المرأة.. الشريك والسند

ومن هنا نرى أنه لابد للمرأة من أن تُلح في طلب العلم، وأن تجتهد فيه، لتستثمر ذلك في سبيل تطوير نفسها وحمايتها من براثن الجهالة، وبالتالي تطوير المجتمع وحمايته، مستغلة طاقاتها الهائلة التي تفوق طاقة الرجل في الصبر والجلد على طلب العلم، ولابد للزوج أيضاً من أن يحثّ زوجته على ذلك، فهي سنده الأول وشريكه الأساس في معترك الحياة، فلا يصح أن يخاف من نجاحها، ففي جهلها خطر أكبر عليه وعلى عائلته، بل يجب أن يساهم في تأمين كل سبل النجاح، التي بها ترتقي نحو الأفضل، ففي ارتقائها تفضي إليه المزيد من التألق والنجاح، وهذا طبعاً لن يحصل إلا عندما يؤمن الرجل واقعاً بأن المرأة شريك لا عبد، وأن هدف الزواج هو التكامل والاستقرار لا الاستعباد والاستحقار.

السابق
الـ«Middle East Eye»: هل يمنع «ضبط النفس الاستراتيجي لـ حزب الله» الحرب؟
التالي
«جنوبية» ينفرد بنشر قرار استرداد مذكرة التوقيف بحق فنيانوس بملف المرفأ.. والمدعون يتجهون الى الطعن!