وجيه قانصو يكتب ل«جنوبية»: لبنان.. عام جديد على أرضية جديدة

وجيه قانصو

تركت أحداث العام 2023 في لبنان، سلسلة تبعات وتعقيدات وتحولات خطيرة يصعب حلها أو تجاوزها أو التحكم بتداعياتها. وإذا مثل مطلع العام 2023 أملاً قوياً، بظهور حكم رئاسي جديد، أقل تبعية وأدنى شخصانية في النهج، وأخف اعتباطية في اتخاذ القرار، وبإمكانية معقولة لاستعادة الدولة شيئاً من الحياة والكرامة، واكتساب الدورة الاقتصادية قبساً من العافية، فإن العام 2024، هو عام التوقعات المتدنية وربما المعدومة، وعدم تسويف النفس بشيء من التغيير والإنجاز، والاقتصار على تنجيم العرافين، واللواذ بآمال الرجم العبثي بالغيب.

هو عام الوضع الجديد الذي يتعدى فكرة التغيرات الجذرية في خارطة القوى الداخلية ويذهب أبعد من حال الانهيارات الاقتصادية والسقوط المروع لمؤسسات الدولة

 لا نقول أن العام 2024 هو عام اليأس، فهذا مجرد توصيف سيكولوجي وذهني، لا يتعدى الانطباعات الذاتية والشخصية، بل هو عام الوضع الجديد، الذي يتعدى فكرة التغيرات الجذرية في خارطة القوى الداخلية، ويذهب أبعد من حال الانهيارات الاقتصادية، والسقوط المروع لمؤسسات الدولة. ليكون الوضع الجديد بمثابة الانتقال الفعلي إلى أرضية جديدة بالكامل، بعناصر جديدة ومنطق آخر وقواعد لعبة مختلفة. هو وضع يبطل كل ما سبق وينهي ما هو قائم، ويؤسس لترتيبات جديدة لم تتضح ملامحها، وتكتمل بناها وتتشكل مؤسساتها بعد، رغم توفر مسوغاتها الموضوعية وحضور كافة مكوناتها.

يمكن رصد ثلاث محطات رئيسية حصلت في العالم 2023:

أولها، محطة انتخاب رئاسة الجمهورية، التي لم تكن مجرد معركة سياسية، أي مجرد لعبة تنافسية على المجيء برئيس حليف لهذا الطرف أو ذاك. فهذه عملية تحددها وتتحكم بها النصوص الدستورية، الناظمة للعملية الانتخابية داخل البرلمان. بل كانت إخضاع الإتيان بالرئيس لمرجعيات وترتيبات، من خارج النص الدستوري واللعبة الديمقراطية. وهي عملية تتم بخطين متوازيين: أولهما إظهار الدستور والعملية الانتخابية عاجزين عن الإتيان بالرئيس، عبر ممارسة حق مزيف بالتعطيل المتكرر لجلسات انتخاب الرئيس، وذلك للإيحاء بعدم كفاءة النظام نفسه وبنود الطائف التأسيسية، لإدارة وتسيير الحياة السياسية. ثانيهما، رهن الانفراج الاقتصادي وتعافي الدولة بمجيء رئيس حليف ل”حزب الله”، أي توظيف مقومات الإكراه وفائض القوة المتوفرين، لترسيخ وصاية مبطنة من “حزب الله”، اليد العليا لا على باقي القوى المحلية في لبنان، بل على الدولة اللبنانية نفسها. 

هي محطة نجح “حزب الله” في شقها الأول، أي في التعطيل الكامل، لكنه أخفق في الشق الثاني، أي إثبات وصايته الكاملة على الدولة، وفرض مرشحه، بحكم أن ذلك لا يتقرر في الداخل، وإنما هو أمر خاضع لفاعليات دولية ومعطيات إقليمية، لم تتوفر لحزب الله بعد. لكن التغير الجذري الذي حصل في هذه المرحلة، هو نهاية النصوص والمرجعيات المؤسسة للنظام اللبناني، واعتبار قواعد الترجيح والتفضيل والأحقية، وصاحب الكلمة النهائية أو العليا، هي معطيات القوة الموضوعية التي يتمتع بها اللاعبون الداخليون، لا الوثائق التأسيسية أو المؤسسات الرسمية. 

 ثانيها، محطة حرب المخيمات، هي أحداث كان بالإمكان إدراجها ضمن التوتر المألوف، الذي يتكرر باستمرار بحكم هشاشة أمن المخيمات الداخلي، والتناقض الهائل بين أجندات ومشاريع التنظيمات الفاعلة فيها. لكن الجديد في هذه الحرب هو اتخاذها طبيعة إقليمية، أي ربط ما يحصل داخل المخيمات بخارطة التجاذب والصراع والتحالفات الإقليمية، وفق ما سمي بوحدة الساحات. بالتالي تحويل المخيمات من وضعية إنسانية للعناية باللاجئين، إلى وضعية سياسية تتجاوز الدولة اللبنانية وتتخطى سيادتها، تمهيدا لأن تلعب أدواراً إقليمية مقبلة لصالح المحور الذي تديره إيران. 

بات لبنان ساحة تجاذب ليس بين قوى محلية على استحقاقات داخلية بل أهَّل لبنان ليكون ساحة تجاذب وصراع إقليمي على أرضه

بالتالي بات لبنان ساحة تجاذب ليس بين قوى محلية على استحقاقات داخلية، بل أهَّل لبنان ليكون ساحة تجاذب وصراع إقليمي على أرضه. ولما كان ل”حزب الله” اليد الطولى في الجهوزية والتسلح والإسناد،  فقد كان جلياً حسم المعارك داخل المخيمات، لصالح القوى الفلسطينية المتحالفة مع إيران، بالتالي إنهاء مرجعية السلطة الفلسطينية في رعاية شؤون المخيمات، وتقليص المظلة العربية داخل الوجود الفلسطيني في لبنان إلى أقصى حد. ما يسر نشوء مرجعية جديدة بديلة، عن خط الشرعية الفلسطينية والمجال العربي، قوامها الخط الجهادي الذي تتزعمه “حماس”، واستراتيجية الصراع الإقليمي والدولي الذي تدير إيران غرفة عملياته.

ثالثها، محطة “طوفان الأقصى” وحرب غزة الأخيرة. كان بإمكان عزل هذا الحدث أمنياً عن لبنان، تأسياً بما فعلته باقي الدول العربية، مع إبقاء ساحة المواجهة السياسية والقانونية في دعم الفلسطينيين ضد إسرائيل،  على المستوى الإقليمي والدولي مفتوحة. وهو أداء ينزع عن “حماس” ومعها إيران، صلاحية التحكم السياسي والأمني بمسار الملف الفلسطيني من جهة، ويحفظ للبنان مظلته العربية، ويقيه تداعيات حرب مدمرة عليه.

ما حصل هو على الضد من ذلك بالكامل، حيث اتخذ الحزب بإيعاز إيراني طبعاً بإشغال الجبهة الجنوبية، وربط مسارها وإيقاعها بمسار حرب غزة. وهو قرار اتخذ بمعزل عن الدولة ومرجعياتها الرسمية المتبقية، وولد آثاراً وحمل دلالات أكثر من أن تحصى: 

أولها، عزل لبنان في مساره الأمني والسياسي والاستراتيجي عن مجاله العربي. فبدلا من أن يشارك لبنان الجهد العربي في توظيف طاقاته، لدعم أهل فلسطينيي غزة سياسيا ودولياً، أصبحت الدولة فاقدة القدرة على اتخاذ الموقف والرأي في هذا الشأن، وبات لبنان في ساحة مواجهة محدودة في حدودها، لكن هشة في انضباطها، بالتالي منهكاً ومنشغلاً بلملمة جراحه الذاتية. ثانيها، تأكيد علني وشبه رسمي، بتبعية لبنان في مساره الإقليمي والاستراتيجي إلى إيران، لتصبح قضايا السلم والحرب والهدنة وتطبيق القرارات الدولية، بعهدة المحور الإيراني. ثالثها، تحول الدولة اللبنانية إلى هيئة إغاثة وجهاز لوجستي إداري، فاقد قراراته الاستراتيجية ولا يملك التحكم بعلاقاته الدولية. رابعها، عودة النشاط الفلسطيني المسلح داخل لبنان بطريقة غير مقننة وغير شرعية. خامسها، إنهاء قرار 1701 وإبطال مفاعيله. سادسها، خروج سلاح الحزب من تقيده والتزامه بثلاثية الشعب والجيش والمقاومة، وتفرده بتقرير وإعلان مسار المعركة وحدودها وشدتها ومداها. سابعها عزل الجبهة الجنوبية عن التداعيات والآثار الاقتصادية والسياسية في الداخل، كأن الجبهة الجنوبية جبهة غريبة عن لبنان، وأمر لا يعني اللبنانيين. 

  هل لهذه المحطات الثلاث سياق واحد، يقف وراءها مخطط ومدبر وعقل واحد، لتكون جميعها علامات وإمارات متنوعة لمشروع واحد، تبذل من أجله الطاقات والأموال والتضحيات؟ فقدان المعطيات الكافية يجعلنا نتردد قليلاً في الجواب بالإيجاب، لكن التجارب السابقة تُعلِّمُنا أيضاً، أنه من السذاجة فصل هذه المحطات بعضها عن بعض، خصوصاً وأن الفاعلين الاساسيين في هذه المحاور الثلاث ينتمون إلى محور واحد، وجميع نتائجها وثمارها تصب لصالح هذا المحور دون غيره.

تحليل وقراءة هذه المحاور مستقلة بعضها عن بعض، يوقعنا في تفاصيل الحدث اليومي ومحاكمة النوايا وسفاهات المساجلة الحزبية. أما قراءتها وتحليلها مترابطة ومتكاملة، فإن ذلك يوفر لنا فهماً للتاريخ، في كليات الواقع المحلي والدولي القائم ومسار ماضيه وحاضره ومستقبله، ليكون بالإمكان بلورة رؤى، وبناء توقعات لما سيكون عليه هذا العام الجديد. 

السابق
استهدافَ العاروري.. العملية الأولى من سلسلة اغتيالات ستنفذُها إسرائيل ضدَ قادةِ حماس!
التالي
رد محدود أو حرب شاملة؟ تأهب أمني داخل إسرائيل