بحضور البخاري وحشد من الشخصيات.. متري وزيادة يرفعان «وصايا» الإمام شمس الدين في معرض الكتاب!

“وصايا” الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين، ما زالت تنبض في مساحة الكيان اللبناني، وتفتح مجالات الفكر والرأي على وسعها لما تمثله من رؤيا لآفاق الفكر الذي يحتاجه الوطن المنهك،والسياسة المربكة.
حضرت الوصايا في سياق الدورة الـ 65 لـ”معرض بيروت العربي الدولي للكتاب بيومه السادس، خلال ندوة نظمها النادي الثقافي العربي، وتحدث في فيها كل من الوزير السابق الدكتور طارق متري ورئيس اللجنة الثقافية في النادي الدكتورخالد زيادة، في حضور حشد من الشخصيات تقدمهم السفير السعودي في بيروت وليد بخاري ،الرئيس فؤاد السنيورة ،الوزير السابق إبراهيم شمس الدين، الوزير السابق خالد قباني،النائب السابق عمار حوري ، رئيس النادي الثقافي العربي السيدة سلوى السنيورة بعاصيري، رئيس تحرير موقع “جنوبية” علي الأمين وعدد من المهتمين.


عرض متري لعدد من اللقاءات التي جمعته بالإمام الراحل، معتبراً وصايا الشيخ شمس الدين “بمثابة دعوة إلى الشيعة بأن لا يخترعوا مشروعاً خاصاً بهم وبأن لا ينجروا إلى الفتنة، وما ورد في الوصايا عن مختلف الفئات اللبنانية من مسيحيين ومسلمين كان بمثابة دعوة للجميع للخروج من الثنائيات ومنطق الأقليات، مبدياً حرصه الكامل على المسيحيين ودورهم الفعال في لبنان، أما زيادة فقد ذكر بصفاء ذهن الإمام وخوفه على الشيعة من الدخول في متاهات ومشاكل هم بغنى عنها، ورأى أن الوصايا فيها من العبارات والمفردات بمثابة مفاتيح أولها الوصية إلى عموم الشيعة بأن يندمجوا في أوطانهم ومجتمعاتهم، مؤكداً أن الإمام شمس الدين كان من مؤيدي إتفاق الطائف ويعتبر صيغته نموذجاً لبلدان أخرى مثل العراق والكلام كان سابقاً لإحتلال العراق.


وكانت مداخلة للأمين لفت فيها الى “أن المؤرخ الراحل السيد حسن الأمين المعروف باعتداله أخبره أنه لا يوجد كتاب عن الأئمة الشيعة كتبوا يمكن أن يعتّد به”.


وأشار الى أنه” قال له إن أردت أن تقدم كتاباً عن الإمام علي سنجد كتاب عبد الرحمن الشرقاوي وكتاب العقاد وجورج جرداق، وإذ أردنا أن نسمع أو نكتب أو نقرأ عن الإمام الحسين نجد الشيخ عبدالله العلايلي”.

خالد زيادة

اما د. زيادة، فقد ذكّر بصفاء ذهن الإمام، وخوفه على الشيعة من الدخول في متاهات ومشكلات هم بغنى عنها”، وفيما يلي نص الكلمة التي قدمها:
“أيها السيدات والسادة، لا شك بأن كل من قرأ وصايا الإلمام محمد مهدي شمس الدين ينتابه شعوران ، الأول هو للاسف لألن الشيخ لم يبدأ بتسجيل هذه الوصايا قبل وقت من تسجيله إياها، أي في الأليام العشرة الأخيرة قبل وفاته رحمه الله، فتجربته العميقة والمديدة وصراحته وصدقه في عرض الأمور كلها أمور تجعل القارئ يتمنى لو أن الوقت أتاح له أن يقدم المزيد من الأراء، وتفصيل المسائل التي عرضها بحيث تتعمق الإستفادة من وصاياه الألجيال اللاحقة. أما الشعور الثاني وهو أن الإمام الشيخ شمس الدين، وبالرغم من التعب والوهن بسبب معاناة المرض وخصوصا في أدواره الأخيرة ، احتفظ بصفاء ذهنه وحرصه حتى لحظاته الأخيرة على أبناء شيعته وخوفه على ما قد يجابهونه من أخطار في بلد مليء بالتناقضات والتجاذبات.

الإمام استطاع من جهة أن يقدم لنا تاريخ الشيعة وتطور أوضاعهم منذ تأسيس دولة لبنان الكبير وحتى املائه الوصايا عام 2002


وبالرغم من قصر عدد كلمات وصفحات الوصايا، إلا أن الإمام استطاع من جهة أن يقدم لنا تاريخ الشيعة وتطور أوضاعهم منذ تأسيس دولة لبنان الكبير وحتى املائه الوصايا عام 2002 أي مسافة ثمانين سنة من تاريخ لبنان الحديث. الذي شهد محطات رئيسية بمثابة مفاتيح لفهم هذه المسيرة التي قطعها شيعة لبنان، من الشعور بالحرمان والتهميش طيلة العهد العثماني إلى الانخراط في الحياة العامة زمن الانتداب الفرنسي حيث أصبح للشيعة شخصية معنوية الى حقبة الستينات وتأسيس “المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى”.
دور لها في القرار العام وصولا وبحساسيته الرفيعة ومعرفته العميقة بمجتمع الشيعة وضع يده على الامرين اللذين أديا إلى تبديل وتطوير في أوضاع الشيعة وهما الاقبال على التعليم ثم الهجرة أو الانتقال من الريف إلى المدينة.

الانتقال والهجرة فتكسب الافراد اتساع أفق إذ يحتكون بأفراد ومجموعات من غير بيئتهم الضيقة


وادراكه هذا ناجم عن ثقافته الواسعة وتمثله لمقولات التاريخ والاجتماع حيث أن هذين العاملين هما من أهم ألاسباب التي تؤدي إلى التغّير والتطور على مستوى الجماعات والافراد. ذلك أن التعليم يفرض قيما جديدة ويقلل من شأن الوجاهة التقليدية، أما الانتقال والهجرة فتكسب الافراد اتساع أفق إذ يحتكون بأفراد ومجموعات من غير بيئتهم الضيقة، خصوصا إذا ما أخذنا بالاعتبار الحقبة التي حدث فيها هذين الأمرين أي في فترة ما بعد الاستقلال وانخراط شباب الشيعة المتعلمين في الأحزاب.


وأما الحقبة الثانية فهي ستينات القرن العشرين، التي صادفت المشروع التنموي واالصالحي للرئيس فؤاد شهاب، الأمر الذي أدى إلى تنمية ما كان يُعرف آنذاك بالمناطق النائية، والتي لا تقتصر على الجنوب فقط ولكنها تشمل البقاع والشمال. فافتتحت المدارس في هذه المناطق، واتيحت فرص العمل ألبناء الجنوب في المؤسسات العامة والوظيفة الرسمية.
ولكن الستينات شهدت وصول الامام السيد موسى الصدر إلى لبنان وما أحدثه حضوره على الصعيد الشيعي وعلى الصعيد اللبناني الوطني. ومن المفارقات التي تسجل بخصوص تلك المرحلة أن الشعور بالانتماء الوطني عند أبناء كافة الطوائف في لبنان وذلك عن طريق المشاريع الإصالحية ، وخصوصا في الإدارة وإيجاد الهيئات العامة ومنها مجلس الخدمة المدنية مما أتاح لأبناء الطبقات الوسطى والدنيا الانخراط في المؤسسات الرسمية. الأمر الذي أوجد مساحات مشتركة يلتقي فيها لبنانيون من مختلف الطوائف والمناطق. أما الأمر الثاني الذي شهدته الستينات فهو التغيير الذي طرأ على الطوائف ًوخصوصا عند الشيعة والموارنة. حيث انفك الولاء تدريجيا عن العائلات التقليدية والوجهاء مما أتاح لأبناء الطوائف الإنتساب إلى
أحزاب وهيئات وجمعيات التدين بالولاء للرموز التقليدية. وهذا الألمر قد أدى إلى أن الظاهرة قد انتجت الشيء ونقيضه، ففي الوقت الذي كانت فيه مساحة المواطنة تزداد، كانت الطائفية
تهبط من الفئات والعائلات النافذة في البلد إلى الطبقات الوسطى والدنيا.


لكن الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين وبعبارة ثاقبة يقول: “خروج الشيعة في نخبتهم إلى الفكر الحديث وإلى الحياة الحديثة، وإلى محاولة الخروج من دائرة الحرمان، لم يكن على
قاعدة التشّيع وإنما كان على قاعدة الحداثة”. ومن خلال هذه العبارة التقط وأدرك كل التطورات التي كان يشهدها لبنان من اندفاع في التحديث وخصوصا بين الخمسينات والستينات. وتبّدل قاعدة وانتماء اللبناني على أساس قيم الحداثة وليس قيم الوجاهة والانتماء الطائفي.
ومع ذلك فإن الإمام الشيخ شمس الدين أدرك ببصيرته، كيف أن حضور الشيعة في الحياة الإدارة العامة، معطوف العامة بما في ذلك على الحضور الباهر للإمام موسى الصدر قد أغرى بإنشاء تحالف شيعي ماروني، ويقول: لعل هذا كان من السياسات الخفية للانتداب الفرنسي..

يرى أن من الأخطاء إدخال الجسم النيابي الشيعي للمجلس النيابي وجعل أعضائه أعضاء حكميينومن غير انتخاب في جسم المجلس


ويفصل الشيخ شمس الدين الحديث عن تجربة “المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى”. يرى أن من الأخطاء إدخال الجسم النيابي الشيعي للمجلس النيابي وجعل أعضائه أعضاء حكميين
ومن غير انتخاب في جسم المجلس، مما أدخل جميع انقسامات الشيعة بسبب تحالفات فئاتهم مع الأحزاب والطوائف الأخرى. والألمر الآخر الذي يشير إليه هو أن الهيئة المنتخبة المدنية كانت
تتمثل فيها القوى الحزبية اليسارية التي تسللت إلى الهيئة المنتخبة وكانت تساهم في شرذمة المواقف.
وإشارته إلى الصيغة التي أقرها المجلس الشرعي والتي يشار إليها باسم )صيغة 1977( التي أرسي فيها المبدأ الأساس والأهم. وهو أن “لبنان وطن نهائي لجميع بنيه”. ويعود إلى ذات الموضوع ويقول: “أكرر للمرة الثالثة على هذا الاندماج ،الشيعة اللبنانيين أن يندمجوا في محيطهم الاسلامي اللبناني اندماجا كاملا على قاعدة طائفية مذهبية، وإنما يكون منسجما مع الاندماج العام في الوطن.
وفي موضوع الأقليات، ينبه إلى أن القوى العظمى تركز على حقوق تقسيم المجتمعات الوطنية تمهيدا لبث الفتن. ويحذر من الإنزلاق إلى هذا الفخ الذي يهدف إلى إضعاف وحدة الأمة الإسلامية على المستوى العربي العام.

تشتمل الوصايا على العبارات والمفردات التي هي بمثابة مفاتيح الوصايا وأولها الوصية الى عموم الشيعة بأن يدمجوا في أوطانهم ومجتمعاتهم


ويلتفت في وصية خاصة إلى المسيحيين وضرورة الحرص الكامل والتام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان. وعلى تكاملهم وعلى شعورهم بالانتماء الكامل والرضى الكامل. وعلى عدم أي شعور بالإحباط أو بالحرمان أو بالنقص.
وقف الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى جانب الطائف، ويقول: “لا أعتقد أن صيغة الطائف هي صيغة نموذجية في هذا الشأن، والنظام السياسي اللبناني الذي بُني عليها هو نظام
سليم لولا ما شابه من بعض الأخطاء..

ويلتفت في وصية خاصة إلى المسيحيين وضرورة الحرص الكامل والتام على ضرورة وجود وفاعلية المسيحيين في لبنان

بل يعتبر أن صيغة الطائف يمكن اعتمادها في بلدان أخرى مثل العراق ، والكلام هنا سابق للحرب الأميركية على العراق

انفك الولاء تدريجيا عن العائلات التقليدية والوجهاء مما أتاح لأبناء الطوائف الإنتساب إلى أحزاب وهيئات وجمعيات التدين بالولاء للرموز التقليدية


إلغاء الطائفية السياسية

فيرى أنه سابق لأوانه وقد يحتاج إلى عشرات السنين أما موضوع لينضج بحسب نضج وتطور الاجتماع اللبناني وتطورات المحيط العربي بلبنان.
وبعد، فإن هذه الوصايا التي مضى عليها ما يزيد على العقدين من الزمن ورغم كل الأحداث والتطورات التي حدثت خلال هذين العقدين حتى يومنا هذا، فإن حرصه على الشيعة جزء من حرصه على لبنان، ولبنان هو جزء من أمة عربية تضم مسلمين ومسيحيين .
والواقع أن هذه الوصايا ما زالت تحتفظ بكامل راهنيتها بل تحتاج الحاجة إليها، كأنه يخاطبنا اليوم. وبالرغم من مرور هذه السنوات التي مرت على غيابه.. رحمه الله. “

طارق متري
وبدوره تحدث في الندوة الدكتور طارق متري ،فعرض لعدد من لقاءات جمعته بالإمام الراحل، وقال:” وصايا الشيخ شمس الدين هي بمثابة دعوة إلى الشيعة بأن لا يخترعوا مشروعاً خاصاً بهم وبأن لا ينجروا إلى الفتنة، وما ورد في الوصايا عن مختلف الفئات اللبنانية من مسيحيين ومسلمين كان بمثابة دعوة للجميع للخروج من الثنائيات ومنطق الأقليات.” أضاف: “أبدى الراحل حرصه الكامل على المسيحيين ودورهم الفعال في لبنان، داعياً إلى تحرير العلاقات اللبنانية-اللبنانية، مؤكداً على أن الشيعة ليسوا أقلية في العالم العربي، وأنه كان مع خيار المشاركة وضد خيار الإنسحاب، وأن المواطنة تؤسس على المساواة، وأنه كان من السباقين في تطوير الفقه الإسلامي، وأن العيش الواحد ليس بحد ذاته شأناً كونياً أو مسألة دينية، لقد ترك لنا الكثير لنتأمله ونتدارسه في غير مسألة دينية ووطني.”


وفيما يلي نص كلمة د.طارق متري كاملة:
“قبل رحيله إلى الدار الباقية ترك لنا سماحة العلامة المجدد الإمام محمد مهدي شمس الدين عدداً من الوصايا داعياً أن يجعل الله فيها نفعاً للناس بعامّة، وللمسلمين بخاصّة، ولأتباع خط أهل البيت بوجه خاص. ولقد سبق ان أكرمني الله بلقاءات عدة مع سماحة الشسخ في باريس، اثناء فترة علاجه، وفي بيروت. اصغيت بمحبة كبيرة الى بعض مما جاء في هذه الوصايا والى وصايا أخرى، اكاد اسميها ابوية، ما زالت حية في ذاكرتي.
لم يكن غريباً ألّا يخاطب صاحب السماحة المسلمين الشيعة اللبنانيّين وحدهم. هو أوصى “وصاياه” وعينه على كلّ مواطنيه، وعلى العراقيّين وسواهم من العرب المسلمين.

وصايا الشيخ شمس الدين هي بمثابة دعوة إلى الشيعة بأن لا يخترعوا مشروعاً خاصاً بهم


ولا يخفى على أحد ان ما يقوله الشيخ شمس الدين للمسلمين الشيعة اللبنانيّين يعني سواهم، أي من يشتركون معهم في المواطنة والإنسانية، بمقدار كبير. جاءت الوصية جلية في دعوتها إليهم بأن “لا يخترعوا لأنفسهم مشروعاً خاصاً يميّزهم عن غيرهم ولا ينجروا ويندفعوا وراء كل دعوة تريد أن تميّزهم تحت أيّ ستار من العناوين، من قبيل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم، ومن قبيل كونهم من الأقليّات لها حقوق غير كل الحقوق التي يتمتّع بها سائر مواطنبهم.
وما يقوله عن المسيحيّين، وهو ما سأتوقف عنده، يشبه ما يقوله عن المسلمين الشيعة، فلا تتوخّى الوطنيّة المستعادة حسب رؤياه، واللبنانيّة المتجدّدة التي يقول بها، الاستجابة لأرادة سياسية ظرفية مفترضة ولا ترضيةً لجماعة من اللبنانيين، كالمسيحيين، بل ضرورة للاجتماع اللبنانيّ وبقاء كيان لبنان. وتراه يذهب الى ابعد واعلى. فعنده ان هذه الضرورة ليست لمصلحة هذا البلد وشعبه فحسب، بل لمصلحة العالم العربيّ الذي يترصّده الشقاق وتحيط ببناه الوطنية مخاطر التجزئة والهلاك. ويضيف مؤكدا مصلحة العالم الإسلامي في الخروج من ثنائية الأغلبية والأقلية التي تغلق على الناس في الهويات الواحدة والعصبيات. وليس من باب الطمأنة أو الملاطفة حرصه الكامل على وجود المسيحيّين في لبنان وفاعليّتهم وعلى شعورهم بالانتماء الكامل والرضى الكامل، وعدم التخوّف على المستقبل. وهو يحرص أيضا على تحرير العلاقات اللبنانيّة من حسابات القوى العدديّة، ومن تبادل الأدوار بين أقليّات تتصرّف وكأنها أغلبيّات، وأغلبيّات يحكم سلوكها منطق الأقليّات.
أكثر من ذلك، تستعيد “الوصايا” قاعدةً طالما تمسّك بها الإمام، وهي أنَّ الشيعة ليسوا أقليّة في العالم العربي، وأنَّ هذا هو شأن المسيحيّين أيضاً. وما التشديد عنده على الانتماء إلى الأكثريّتين العربية والإسلامية، أو إحداهما، مجرّد التفاف على الواقع بواسطة معادلة نظريّة وإفلات رمزيّ من أسر الهويّة الجماعيّة الأولى. إنه في حقيقة الأمر دعوة لوضع المغايرة المذهبيّة والدينيّة في مكانها، فلا تنقلب بواسطة تقاسم السلطة غير المتكافئ أو بقوّة الإيديولوجية، إلى مغايرة في نواحي الحياة كلّها. والفاعدة المذكورة هي بالوقت عينه تغليب لخيار على آخر، تتنازع بينهما فئة واسعة ممّن يحسبون أنفسهم او يجدونها مهدّدين بالهامشيّة، بفعل تناقص أعدادهم أو انحسار نفوذهم في الحياة العامة. إنّها خيار المشاركة ضدّ خيار الانسحاب والعزوف والانفصال الشعوريّ. وهي تأكيد على تحقيق الخير العام والسعيّ وراءه هو السبيل إلى تجاوز الدونيّة، الحقيقيّة أو المتوهّمة، بدلاً من اللجوء إلى تفجّع اقلوي ودفاعيّة تتقاذفها الحجارة الطائشة والأوهام والرهانات المستحيلة.

المواطنة والمشاركة


من نافل القول التذكير بأنَّ المواطنة، من حيث المشاركة التي تقوم عليها وتستدعيها بالوقت نفسه، تتأسّس عند الشيخ مهمد مهدي شمس الدين على المساواة التي لا لُبس فيها أو انتقاص منها في أي حقل من الحقول. لقد سبق له قبل سواه من الفقهاء المجدّدين، في عصر الاستقلال الوطنيّ وعقد الوطنية والمواطنة الجديد الذي صنعه وتحقق به، أن عالج مصطلح “أهل الذمّة” في الجزء الثاني من كتاب “جهاد الأمّة”. وكان بيّناً عنده السعي لتثبيت دعائم المواطنة كما نقرأ في كتابه “نظام الحكم والإرادة في الإسلام”، الصادر أوّل مرّة عام 1954، وللمرّة السابعة عام 2000. ولعلّ كتابه من بين أبرز المعالم في تطوّر الفقه السياسيّ الإسلاميّ المعاصر. فالعلامة اجتهد في قوله ان تعبير “ذمّة نبيّكم” تكاد تعني اليوم حماية القانون. لم يغب عنه، في سعة علمه الفقهي، التذكير بما تجاهله عدد من الفقهاء والمؤرخين عندنا وكلنهم ينظرون في مرآة المستشرقين. فتحدث عن شروط أهل الذمّة بوصفها تصوّرا فقهياّ متأخّرا، وانتقد عدم الدقّة في كتابات عدد من الفقهاء. وهو يلتقي في ذلك مع الكثيرين من الدارسين الذين يُجمعون اليوم على أنَّ ما دُعي “الشروط العمريّة” وحسب نصا معياريا، جاء متأخّراً، ولعلّه خرج من قصر الخليفة المتوكّل.
وهكذا يبدأ الحوار عند الشيخ محمّد مهدي شمس الدين من علاقات المواطنة. فهو ليس تقابلاً بين الإسلام والمسيحيّة، بل لقاء بين مسلمين متنوّعين ومسيحيّين متنوّعين، يعتنقون الإسلام والمسيحيّة بدرجات متفاوتة. وكثيراً ما يميل إلى التوكيد على جدّته، بل حسبانه نوعاً من القطيعة مع الماضي. فالخبرات السابقة انطبعت بالرؤية الثنائيّة للعالم، فطغت بوجه الإجمال على ما شهدته العلاقات بين المسلمين والمسيحيّين من مسالمة واختلاط وتبادل.
كانت العوالم التقليديّة مكتفيةً بذاتها وتنزع على الصعيد الدّيني إلى إقصاء الآخر. وعلى الرغم ممّا نجده في النصوص التأسيسيّة من دعوة إلى التعارف وتجاوز الحصريّة، كان الواحد يفسّر الآخر منقصاً إيّاه، وغالباً ما يعمد إلى إسقاط صور للغير هي في حقيقة الأمر مسوخ لصور الذات.
بيد أنَّ تاريخ المسلمين عرف خلال مراحل بناء الحضارة العربيّة والإسلاميّة وازدهارها، تعاملاً مع المسيحيّين يرتكز على استيعاب ما عندهم والإفادة ممّا هم قادرون عليه. وكشف المسيحيّون العرب، من جهتهم، عن توق فعليّ للمساهمة في البنيان الحضاريّ الإسلاميّ. وسعوا إلى حوار مع المسلمين، دفعتهم إليه الحاجة إلى الدفاع عن معتقداتهم والرغبة في التعارف الحقّ. واستقى الحوار من التفاعلات على الصعيد الشعبيّ. فالحياة أقوى ممّا تحدّه النظم وعلاقات القوى. فكان للمسلمين والمسيحيّين تأثير متبادل على مستوى طرق العيش والمشاعر، وكانت عندهم الثقة نفسها بالعناية الإلهيّة والاتّضاع أمام الله، وإسلام النفس له. واحتكموا إلى العقل سبيلاً إلى التفاهم أو ضبط الاختلاف.
أمّا في العصر الحديث، فظهور الفكرة الوطنيّة واتّساع تأثيرها، وتطلّع البلدان المستعمرة إلى التحرّر من الحكم الأجنبيّ وصنع مصائرها بأنفسها، فتح أبواباً جديدة. وأدّى نزع الاستعمار المباشر وانحسار بعض أشكال الهيمنة الغربيّة إلى شيء من التوازن في العلاقات بين المسلمين والمسيحيّين على صعيد العالم. وفي واقع الأمر، واجه الحوار مقاومةً من هنا، وتحفّظاً من هناك. فلم يكن يسيراً أن يبدّل المسيحيّون نظرتهم إلى ذواتهم وإلى المسلمين أحراراً من قبضة التاريخ. ولم يكن قريب المنال أن يضرب المسلمون صفحاً عن الماضي المثقل بمشاعر الريبة والعداء، وأن يحلّوا الثقة محلّ الشكّ بنوايا المسيحيّين حيالهم.
لم يغب هذا كلّه عن نظر الإمام شمس الدين حين قرأ الواقع الحالي من منظور الحاجة الراهنة إلى ائتلاف في مقاومة الظلم ونصرة الحق وإقامة العدل. لذلك، وبعد الإشارة إلى أنَ المسيحيّين والمسلمين يحملون ذكريات سيئة ومؤلمة من المظالم التي ارتكبتها الحكومات والحكّام باسم المسيحيّة والإسلام، دعا الجميع إلى وضع هذه الذكريات وراءهم والاتّجاه نحو المستقبل بروح التعاون.

لم يغب هذا كلّه عن نظر الإمام شمس الدين حين قرأ الواقع الحالي من منظور الحاجة الراهنة إلى ائتلاف في مقاومة الظلم ونصرة الحق وإقامة العدل


وفي هذا الاتجاه نحو المستقبل، يذكّر الإمام دائماً بدور المسيحيّين العرب، من أبناء كنيسة المشارقة، أو أبناء كنيستنا كما يقول، في إخصاب الحوار. ولا يوافق رأيه فئة من المسيحيّين الغربيّين والمسلمين تحسب أنّ للمسيحيّين العرب دوراً رمزيّاً لا فعليّاً بحكم انكفائهم وارتباكاتهم الأقلويّة. بل يلتفت إلى المساهمة الفريدة لهؤلاء في تعزيز التقارب بين المسيحيّين والمسلمين، في غير مكان. فهم ذوو قدرة مزدوجة على مخاطبة أطراف الحوار في العالم. إلّا أنّ دورهم يتعدّى الوساطة وإن مخلصة ونزيهة. وهم مشدودون إلى المسلمين بروابط المواطنة والانتماء الحضاريّ الواحد. ثمّ أنّ لهم، بوصفهم مسيحيّين شرقيّين، علاقةً مزدوجة بالغرب. صحيح أنَّ فئة منهم أفادت منها على غير صعيد، إلّا أنهم من جهة ثانية يتأثّرون بالضغوط الغربيّة على العالم الإسلاميّ مرّتين: مرّة حين تستهدفهم أيضاَ بسبب شرقيّتهم، ومرّة أخرى حين يتعرّض الردّ عليها لتجربة أن يأخذهم المسلمون بجريرة من يحسَبون حُماتهم.


اللبنانيّة المتجدّدة

غنيّ عن القول أنَّ للبنانيّين قسطاً كبيراً في هذا الدور. أنصفه العلامة من دون مبالغة. ولو انه تأخر في الانتقال الى الرفيق الأعلى لازداد حذرا من تعظيم الذات اللبنانية المتخيلة تعويضا عما أصاب حالة لبنان من ترد عميم. رأى شيخنا ان تجربة العيش معا في لبنان، على الرغم ممّا يشوبها من اضطراب بفعل انحدارها تارة إلى السجال العقيم، أو المسايرة الطائفيّة الجوفاء، وهي الوجه الآخر له، تحمتل معان وتنفتح على احتمالات تتجاوز حدودها الضيّقة. فاللبنانيّة المتجدّدة التي قال بها صاحب السماحة مدعوّة إلى مخاطبة غير اللبنانيّين، شرط ألّا تنزلق إلى اعتزاز لفظيّ بالخصوصيّة يغطّي فشلها، أو لا يعوّض عن خوائها ترداد الكلام عن رسالة لبنان العربيّة والعالميّة.
بالطبع ليس العيش اللبنانيّ المشترك كما يسميه الكثيرون، وكما جاء في الدستور، أو الواحد حسب الإمام، ليس هذا العيش بحدّ ذاته شأناً كونيّاً أو مسألة دينيّة. لكن الاهتمام ببعده الديني شرط لترسيخه. وبقدر ما يغفل الحوار هذا البعد يتراجع إلى منطق المشاركة الطائفيّة، وإلى تفاوض بين كتل تُحسب متراصّة يُلبس لبوساً مسيحيّاً – إسلاميّاً. لم ينفِ الشيخ شمس الدين الحاجة إلى أن تكون العلاقة الطائفيّة موضوع تدارس بين اللبنانيّين، لكنه دعا للذهاب إلى أبعد. فهناك نزعة جوهريّة ترى أنه لكل جماعة طائفيّة شخصيّة متجانسة وطبائع ثابتة تكوّنت في كنف الهويّة الدينيّة، وباتت قائمة بذاتها. والحوار الجاد يسهم في نقدها، وفي تحرير الثقافة والدين من سيادة منطق يختزل هويّات المواطنين المتعدّدة إلى واحدة ثابتة. ويؤدّي هذا النقد إلى إعادة تأسيس المواطَنة على قيَم مشتركة ترسم ملامح الخير العام، وتعوّض بعض الشيء عن هشاشة البنى الرمزيّة المشتركة في نظام دعاه الإمام “نظام السقوف المتعدّدة”. على هذه الأسس ينبغي ألّا يُفهم تحفظ الشيخ شمس الدين في امر إلغاء الطائفيّة السياسيّة بمعزل ن دعوته إلى تركيز الجهود للنظر في عيوب الصيغة اللبنانيّة ونواقصها، وعن قناعته بأن ذلك متعذّر من دون حوار حقيقي، طال انتظاره.
ليس من حوار حقّ من دون مقاربة نقديّة، روحيّة وأخلاقيّة، لشؤون الوطن وهموم الطوائف. وهذا الحوار لا يبدأ من الرغبة في أن يقنع الواحد الآخر بصحّة اعتقاده، بل ينطلق من موقف يرتضي أن يسائل الشريك شريكه في احترام متبادل للقناعات، وبالوقت عينه في قبول لاحتمال الخطأ في أن يذهب كلٌ إليه. وهو يفتح مساحة تدع الواحد يفسّر ذاته ويستقبل الآخر كما يرى نفسه بنفسه. لذلك فهو يفترض نوعاً من الشكل المنهجي أو تعليق الحكم القيميّ، بما في ذلك بعض شؤون الدين من غير أن يؤدّي ذلك إلى زعزعة الإيمان. ولا يعني ذلك في أمر الدين نسبويّة أو تلفيقاً، بل إقراراً بنسبيّة القول البشري، بما فيه الدينيّ، الذي قد يشوّه هنا وثمّة ما يؤمن به الناس. ويقوم الحوار من اجل العيش معا بين الناس في تنوّعهم وسعي المؤمنين منهم إلى طاعة لله من داخل تراثهم الديني، وإلى التحرّر من كل اضطراب آتٍ من جراح التاريخ أو من نواقص التفسير. ومن دون أن يتحوّل إلى أخذ وردّ في شؤون العقيدة، لا يستقيم العيش معا إلّا بعد مراجعة للذات تنفتح على رؤية جديدة أو متجدّدة للعلاقة بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم.
لقد ترك لنا الكثير نتأمّله ونتدارسه في غير مسألة دينيّة ووطنيّة. ينتظرنا عمل كثير فيما نسير الطريق التي شقها. أما هذه المداخلة فسعت لفتح نافذة مطلة على سعة فكره. غير أنها، وقبل كلّ شي، شهادة مودة ليس لها آخر”.

السابق
خامنئي: لإجراء استفتاء ‫عام في فلسطين.. ماذا عن إلقاء اليهود والصهاينة في البحر؟
التالي
ميقاتي في الجلسة الوزارية: نتحمل مسؤولياتنا.. وأكدت للودريان أن الأولوية لوقف العدوان الإسرائيلي