وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: غزة.. حرب المطلقات المستحيلة

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

حرب غزة الجارية هي حرب المطلقات، التي تتجاهل إمكانات الواقع والقدرات الفعلية. هي حرب الرهانات على تغيير واقع قائم، من خلال تحطيم تراتبياته وترتيباته، وتعديل موازين القوى فيه، لأجل خلق واقع آخر، وترسيخ معادلة سياسية جديدة، تفرض نفسها على المتصارعين وترغمهم على التقيّد بها. هي حرب لا تقصد لذاتها، بل لها غاية ومقصد نهائيين، يتمثلان بفرض وضعية بديلة، تنتج عن المواجهة والقتل والتدمير المتبادلين.

فالحرب فعل لأجل مستقبل مأمول ومرغوب فيه، لكن تحقيقه لا يتم بمسار طبيعي أو سلمي، أو بجهد عقلي وفعل تفاوضي أو نضال مطلبي، بل يتطلب تحويلا لمسار، تحطيماً لمقومات قوة قائمة، كسراً لثوابت ومسلمات، إدخال معطيات قوة غير مسبوقة، تفرض جميعها الانتقال إلى نقطة توازن جديدة، تتأسس عليها أرضية التفاوض ومبادىء السياسة وقواعد العلاقات.

تكون السياسة في هذه الحرب مرجأة ومعلقة رغم أنها الهدف النهائي للحرب

تكون السياسة في هذه الحرب مرجأة ومعلقة، رغم أنها الهدف النهائي للحرب. تبقى صورتها متخيلة، نموذجاً أعلى مفقوداً ومرغوباً فيه بشدة. حين يكون النموذج المأمول أو المرغوب فيه مثالياً، والفجوة بينه وبين الواقع الفعلي كبيراً، حيث تعترضه عقبات جدية وصلبة، يجعل تحققه صعب المنال أو ربما مستحيلاً، فإن الحرب أيضاً ستكون ضارية ومدمرة، وأثمانها باهظة عند طرفي الصراع ومداها الزمني طويل.

عندها، لا صوت فوق صوت المعركة. أي تكون الحرب باستراتيجياتها وتكتيكاتها وإنجازاتها، وحجم الأذى الملحق بالعدو، هو الصوت الوحيد المسموع والمفكر فيه. بالتالي توصد أبواب الآراء الأخرى، التي تقترح خيارات بديلة غير الحرب، وتتعطل النشاطات الأخرى، وتفقد استقلالها وحيّزها الخاص، وتصبح مُسخرة لأجل هدف أسمى منها وأرفع منها، لا يتحقق إلا بهزيمة العدو أو القضاء عليه أو حتى إبادته.

عندها تتضاءل أهمية الموضوعات الأخرى، من اقتصاد وبنى تحتية وشروط حياة، وقتل الأبرياء والأطفال، وحجم الضحايا البشرية وفداحة الدمار ومأساة التهجير

مع الحرب تتغير الاولويات والموازين، فلا تعود حسابات الربح والخسارة، هي الموجِّه والضابط لنشاط الحرب وخياراتها. فالعقل الهادىء يتراجع إلى الوراء، وقد ينسحب بالكامل، بعد أن يفقد سلطته وحيّزه، أو تتم إزاحته وتحييده وتسفيهه وربما قمعه. عندها تتضاءل أهمية الموضوعات الأخرى، من اقتصاد وبنى تحتية وشروط حياة، وقتل الأبرياء والأطفال، وحجم الضحايا البشرية وفداحة الدمار ومأساة التهجير. بل تفقد قيمتها الذاتية، وتأخذ دلالة مختلفة ومعنى آخر، تصير ثانوية وربما تافهة بالقياس إلى الهدف الأكبر والأسمى. هي أثمان حتمية لا مهرب، بل لا بد من التضحية بها، فوراء هذه الاثمان وجود أرقى، عالم أنقى، أرض ميعاد، انتزاع حق مغتصب، جنة فائضة، فردوس موعود، انبثاق لحياة أسمى وإنسان أعلى.

مع الحرب تنشط الايديولوجيات والعقائد، التي تحيل إما إلى تفوق واستثناء قومي واستعلاء عرقي، وإما إلى حتميات تاريخية، وإما إلى عناية ربانية، يكون فيها أحد طرفي الصراع أبناء الله وأحبائه، بخلاف الطرف الآخر المطرود من رحمته وحبه، ما يجعل باب المعجزات وإمكان اجتراحها مفتوحاً على مصراعيه. هي جميعها لا ترى الأمور بمنظار العقل الموضوعي، الذي يصف الأشياء على حقيقتها الفعلية، ويصورها وفق ما هي كائنة، بل تأخذك إلى ما يجب أن تكون عليه صورة الأشياء، والواقع الصحيح والبديل عن الواقع الراهن والفعلي، والتي لا تتحقق من تلقاء نفسها، بل لا بد من كتلة تاريخية مقتحمة ومندفعة، لا تنظر إلى الوراء، وتكون ومجهزة بآلة حرب، لتدمير وإزالة الواقع القائم وتطهر جيوبه وتكنس آثاره.

عقل لا يعترف بحدود ما يؤمنه الواقع أو حتى بحدود ما يتحمله ويصبر عليه

إنه عقل المطلقات الممتنعة على التقييد، واللاتناهي المتجاهل لحدوده وتناهيه، والطهر الخالص الذي لا يخالط غيره وكل مختلف عنه، بل يرى في هذا الاختلاط دنس ورجس. هو عقل لا يساوم ولا تُقنِعُه التسويات أو أنصاف الحلول، ويرفض الاحتكام إلى القدرات الموضوعية المتوفرة لديه. هو عقل فائق الثقة بنفسه، معتد بإمكاناته، لا بما يملكه من قدرات فعلية فحسب، بل بإمكانات مفترضة ومتخيلة. عقل لا يعترف بحدود ما يؤمنه الواقع، أو حتى بحدود ما يتحمله ويصبر عليه، بل بما تولده تداعيات الحرب من متغيرات نوعية، وتطورات ومفاجآت غير منظورة، تفصح عنها تداعيات الحرب على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، وتتسبب بإنهاك للعدو، وترغمه على السقوط والاستسلام أو التسليم.

حين تكون المطلقات الطهرية هي دافع الحرب وموجهها، فإن حجم الكارثة على الطرفين يكون هائلاً، وسيدفع أثمانا في غاية الإيلام، قبل أن يدرك أنها مطلقات مستحيلة. فالإسرائيلي محكوم لا بهدف القضاء على “حماس” فحسب، بل بالقضاء على الشعب الفلسطيني نفسه، وإنكار حقيقته ووجوده كشعب ذي حق بأرض ودولة. هو هدف منفصم عن الواقع، مهما كانت صدقية الاصطفاء الإلهي والهبة الربانية بأرض الميعاد، ولا يمكن تحقيقه، مهما تكثفت قدرة التدمير وممارسات الردع والبطش.

قضية فلسطين هي قضية شعب، قبل أن تكون قضية أرض

أما “حماس”، ورغم أن صلب قضيتها هي قضية أرض محتلة ومعاناة شعب، ورغم أن ما أقدمت عليه كان فعلاً جريئاً، إلا أنه فعل مغامر خال من الحسابات الدقيقة والتقديرات الواقعية. فعل استخف بالمآلات، وراهن بكثير من الطوباوية والسذاجة، على طوفان سياسي وعسكري سيغمر المنطقة، والأخطر من ذلك، أنه استهان بالكارثة المتوقعة التي حلت بأهل غزة، والتي لا يمكن يمكن تصويرها، في سياق إضفاء شرعية سياسية وزخما شعبياً، على مغامرة “حماس” الأخيرة، على أنها تضحيات لا بد منها، وضرورة من ضرورات النضال المسلح ضد العدو الإسرائيلي. فهذا ادعاء لا تملك “حماس” حق التفرد في تقريره نيابة عن أهل غزة، أو نيابة عن الشعب الفلسطيني، ولا يحق لها أن تحول مأساة غزة الحالية إلى مادة استثمار سياسي، وبنداً من بنود خطاب انتصارها الجاهز.

قضية فلسطين هي قضية شعب، قبل أن تكون قضية أرض، وقضية حياة قبل أن تكون عقيدة جهاد، وقضية إنسان قبل أن تكون قضية مقدسات.

السابق
مسيرات من لبنان الى الجليل.. وتفعيل القبة الحديدية
التالي
أرقامٌ تُدمي القلب.. «الصحة الفلسطينية» تكشف عن عدد الشهداء والجرحى منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة