سياسيا، استطاعت السلطة الفلسطينية التعامل ببراغماتية مع ارتدادات هجوم السابع من أكتوبر، من خلال أساسين اثنين قائمين، الأول: الحفاظ على الهدوء المتزن في الضفة الغربية بعدم الانجرار نحو التصعيد العسكري رغم ارتفاع وتيرة انتهاكات الاحتلال كسياق طبيعي لسياسات اليمين المتطرف الإسرائيلي الحاكم. والثاني: إعادة تقديم طرح سياسي واقعي مدعوم دوليا (حل الدولتين) القائم على تماسك الكيانية السياسية والوحدة الجغرافية بين مكوناته (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية) كشرط سياسي للانخراط في مرحلة ما بعد انتهاء سلطة الأمر الواقع (حماس) في غزة.
مقاربات عديدة تعكس ضرورة إعادة الثقة بمنظومة السلطة الفلسطينية ودعمها على قاعدة ثبوت قدرة الفلسطيني على حكم نفسه بنفسه من خلال سلطته، وصولا إلى الدولة الفلسطينية التي حاربتها إسرائيل وأحزاب اليمين من خلال حكوماتها التي تعاقبت بعد توقيع اتفاق أوسلو.
الأمر لم يتوقف عند ذلك فقط، بل استمرار محاولات فرض نوع من الوصاية السياسية من قبل دول إقليمية من خلال استغلال بعض الجماعات والفصائل تحت بند الاستحواذ على الورقة الفلسطينية لتنفيذ أجنداتها ومصالحها ممّا كان له أثر في الشقين السياسي والاقتصادي في استكمال تحقيق الدولة الفلسطينية.
وبعيدا عن الأسطوانة التي يكررها البعض بضعف السلطة الفلسطينية، والتي أصبحت نوعا ما ممزوجة بعدم قراءة الواقع الفلسطيني بصورة سليمة، فالشواهد على بناء السلطة الفلسطينية مؤسساتها وأجهزتها الحكومية توّجت في شهر أبريل العام 2011، عندما أصدر منسق الأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط تقريرا مفصلا عن التقدم الذي أحرزته السلطة الفلسطينية في بناء الدولة ومؤسساتها، ووصف التقرير “جوانب إدارتها بأنها كافية لدولة مستقلة”.
كما صدر تقييم مماثل للبنك الدولي في شهر سبتمبر العام 2010، أكد فيه أن السلطة الفلسطينية في وضع يؤهلها لإنشاء دولة، مما سمح للجمعية العامة للأمم المتحدة باتخاذ قرار منح بموجبه فلسطين مركز “الدولة المراقبة غير العضو” في الأمم المتحدة.
وبعد عقد ونيف من الأزمات المركبة، من انخفاض المساعدات والمنح الدولية إلى استمرار وضع عصيّ إسرائيلية في عجلة الاقتصاد الفلسطيني، بالإضافة إلى استمرار حكم حماس لقطاع غزة مما أثر على إيرادات السلطة، استطاعت حكومة الدكتور محمد اشتية تحقيق نسب نمو اقتصادية متقدمة تجاوزت الـ3.5 في المئة عام 2022، هذه النسب المستمرة جاءت بعد جائحة كورونا وتداعياتها على العالم، حيث لم يتوقف الأمر عند ذلك بل انعكست سياسات حكومة اشتية على ارتفاع القيمة المضافة لمعظم الأنشطة الاقتصادية من تبادل تجاري وصناعة وإنشاءات وخدمات وانخفاض معدلات البطالة، وفقا لتقارير موثقة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
حكومة بنيامين نتنياهو لن تتحمل ببساطة أعباء القطاع، ستقفز من سفينته قبل أن تغرق بها. لذلك سيكون هروبا من غزة بعد تدميرها
صلابة السلطة ليست فقط في الشق الاقتصادي، والذي لا ينفصل عن الشق السياسي، فالرئيس الفلسطيني محمود عباس قدم مشروعا سياسيا تفاوضيا متكامل الأركان من خلال اتفاق أوسلو وملحقاته، وثبّت قواعده من خلال إجراءات قانونية لصالح “وضع الدولة” تنساق مع قرارات أممية ذات الشأن. وأفضت كما ذكرنا سابقا إلى حصول فلسطين على دولة مراقبة غير عضو في الأمم المتحدة، وهو فلك سياسي يدور فيه جميع دول العالم وصولا إلى اتفاق سلام في المنطقة. وها هي حركة حماس قبل أيام ومن خلال خطاب متلفز لرئيس مكتبها السياسي تتعلق بطوق نجاة “حل الدولتين” للخروج من الحرب التي دخلتها عنوة بسبب إيران ومحورها في الشرق الأوسط.
فمن عارض اتفاق أوسلو سابقا لم يأت بأفضل منه، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بالتماهي مع المخططات اليمينية الإسرائيلية لنسف الاتفاق وهدم الكيانية السياسية الفلسطينية المتمثلة بمنظمة التحرير وسلطتها، وهنا أقصد اليمين الفلسطيني المتمثل بحركة حماس التي أصبحت تنادي به كمقدمة لطرح نفسها بديلا عن المنظمة والسلطة.
مجددا، صلابة السلطة الفلسطينية وتماسكها ومكانتها السياسية تجعلها العنوان الوحيد القادر على انتشال الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من مستنقع حرب اليمينين الإسرائيلي والفلسطيني الحالي. فالحقيقة ليست معضلة إدارة غزة بعد انتهاء الحرب. فطرفا الحرب الدائرة ليسا معنيين بذلك، الاثنان انتهيا؛ فحركة حماس لن تكون قادرة على التعامل مع الوضع الإنساني المأساوي في القطاع أو جلب تمويل دولي لمشاريع إعادة الاعمار. وهي تدرك منذ الآن حتمية انفجار هذا الملف في وجهها تحديدا إن اعتمدت سياسة المماطلة به، بسبب عجزها عن تسويق رؤاها السياسية أو الاقتصادية، بالإضافة إلى وَهَنها عن تأمين الاحتياجات الحياتية للشعب هناك.
أما حكومة بنيامين نتنياهو فلن تتحمل ببساطة أعباء القطاع، ستقفز من سفينته قبل أن تغرق بها. لذلك سيكون هروبا من غزة بعد تدميرها بواقع يخلق أزمة تتطلب حلا دوليا ينخرط فيه الجانبان الأميركي والأوروبي مع دائرة الدول العربية، بالتنسيق والتعاون مع السلطة الفلسطينية التي أعلنت استعدادها للانخراط في مرحلة ما بعد حماس ضمن اتفاق سياسي واقعي مدعوم دوليا قائم على حل الدولتين، وضامن للكيانية السياسية والوحدة الجغرافية للدولة الفلسطينية بضفتها الغربية وقدسها الشرقية وغزتها الأبية.