
حفل تاريخ لبنان بأحداث، حمل معظمها الويلات والمآسي، بالإضافة إلى الاستحقاقات المصيرية، التي لم تؤدّ فقط دورها المطلوب، في الحفاظ على سيادته و استقلاله و قوته، بل أضعفت مؤسساته و أجهزته، وحوّلته من ثم إلى كانتونات طائفية.
وكان من الطبيعي والبديهي أيضاً، أن يشكّل الشعب اللبناني، في خضمّ كل حدث أو استحقاق، وقوداً لحرب نفسية منهِكة ما لبثت أن أوقعته فيما بعد ضحية لها. كذلك الأمر، لم يتم فقط توظيف الحرب النفسية، التي أنهكت اللبنانيين في الداخل اللبناني فحسب، بل انسحبت “فوائدها” أو “مكاسبها”، إن جاز التعبير، نحو مجرى مصالح الخارج.
لقد جرى انتهاك فاضح لحياة اللبناني النفسية، نتيجة الأزمات الاقتصادية والصحية وغيرها من المعيشية، عبر ابتزازها و استغلالها في سبيل تأجيج النزاعات الداخلية، التي أوجدها عرّابو السلطة السياسية، الذين يتناتشون فيما بينهم المصالح الخاصة، بعد أن تعمّدوا إثارة الفتن، وسيّما الطائفية منها. و لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ عمد هؤلاء أيضاً إلى تطويع الشعب “إيديولوجياً” و”دينياً”، و تجييشه من أجل حماية مصالح دول أو جهات غريبة عن ثقافته ومحيطه.
وقبل مقاربة الحرب النفسية في لبنان، لا بدّ أولاً من عرض ماهيتها ليصار إلى فهم أكثر للواقع اللبناني وحالته، و إدراك تداعيات ما خلّفته في حياة اللبنانيين.
عمد هؤلاء أيضاً إلى تطويع الشعب “إيديولوجياً” و”دينياً”و تجييشه من أجل حماية مصالح دول أو جهات غريبة
تعدّ الحرب النفسية “تكتيكاً” يتخّذ منحى سيكولوجيّاً، و هو ينطوي على استراتيجيات خاصة به بهدف التأثير على السلوك والانفعالات والمعتقدات والأفكار…و يتم اللجوء إلى هذا النوع من الحروب في نواحي الحياة كافة، وخصوصاً في السياسية من أجل كسب امتيازات ومصالح سياسية أو شخصية تغلّب الوطنية و تضعفها .
وبالعودة إلى الواقع اللبناني، تقودنا مقاربة الحرب النفسية، التي أوقعت السواد الأعظم من اللبنانيين ضحية عدم استقرار نفسي، تجلّى في الاحباط والخوف و القلق و هذيان الانتصار … إلى ملاحظة استراتيجية مفصلية رئيسيّة، تمّ اعتمادها لإرساء هذه الحرب، و تتمثّل في تحويل ما هو “وطني” إلى “ديني”.
وبتعبير أدق، تم العمل من قبل “سيستام” السلطة السياسية الطائفية، على تحوير القضايا الوطنية، وكذلك تحريفها عن مسارها، الذي يرتبط بتعزيز المواطنية وصون السيادة، وإقامة الدولة المدنية القوية، وتحويلها إلى دينية. ووجدت هذه السلطة في التنشئة الاجتماعية التقليدية، القائمة على تمجيد الديني على حساب الوطني مادة” أولية”، إن جاز التعبير، بحيث أدخلتها في صناعة الابتزاز النفسي و العقلي. ولا يخفى ما للتنشئة الاجتماعية، من دور رئيسي في التأثير على الاستعداد النفسي للفرد، باعتبار أن ما هو تربوي أو ثقافي، يعدّ عاملاً مهماً في تشكيل هذا الأخير.
السلطة نجحت في الاطباق على الحياة النفسية للبنانيين وتدجينهم
وعلى هذا النحو، يمكن القول أن السلطة نجحت في الاطباق على الحياة النفسية للبنانيين وتدجينهم، وتحديداً عندما أدّى الدين دوره الحاسم، في ارساء الابتزاز أو الحرب النفسية، بعد أن صبغت القضية الوطنية بما هو مقدّس إلهي، لتسلخ عنها هويتها الوطنية.
و يتجلّى سبب رئيسيّ، يقف وراء اعتماد هذا المخطّط الاستلابي القائم، كما أشرنا، على تحويل القضايا الوطنية إلى دينية. وهو يتمثل في أن توظيف ما هو ديني، يعدّ أكثر تأثيراً من الوطني لأنه يثير غريزة القطعانية، لأنه يعزّز اللاوعي الجماعي، المشحون بالموروثات الدينية، التي تعيق تفتّح الوعي الفردي وتبعده عن عقلانيته.
وتظهر مقاربة أعمق لما يجري في لبنان، أن أولياء السلطة، برعوا في ابتزاز الحياة النفسية للبناني، من خلال عملية استلاب حصلت على مستويين، جماعي وفردي، استهدف هؤلاء، على المستوى الجماعي، الحقائق، بحيث عمدوا إلى إخفائها أو إلى تزييفها، بما يتناسب مع مصالحهم. وخدعوا بذلك اللبنانيين بعد أن “غُرِّبوا” ليس فقط عن قضاياهم ومواطنيتهم، و إنما عن أنفسهم. وكانت النتيجة أن الوعي الجماعي لكلّ طائفة ابتلع الفردي، مؤسساً لكانتونات يمكن أن يقال عنها أيضاً “نفسية” بدلاً من دينية. أما فيما يتعلّق بالمستوى الفردي، فإن الحرب النفسية أدت دورها، من خلال الاستلاب، عبر خلق صراعات داخلية لدى الفرد، هو يريد أن يتمايز عن غيره، ولكنه عاجز عن ذلك، نتيجة خوفه من القيام بذلك، مما شكّل تهديداً، ليس فقط لإدراك الذات، وإنما لإدراك الآخر أيضاً عبر الخوف منه.
لقد تسبّبت الحرب النفسية عند اللبنانيين، في ازدواجية يمكن وصفها بالمرهِقة، وتبدّت بوضوح في صراع بين الحماس اللاعقلاني للسلطة، التي نجحت، كما أشرنا، في تطويعهم من جهة وبين الخوف منها من جهة أخرى.
خلاصة القول، انتجت الحرب النفسية التي صنعتها طائفية السلطة السياسية في لبنان عبر أوليائها، نمطية ساذجة في التفكير، واتخاذ المواقف عند شعبها بعد أن أنهكته على المستويات كافة، ورمت به في بؤر طائفية، بحيث لا تسمح له بالخروج منها، إلا في حال شعرت -اي السلطة- بالخطر عل وجودها.