
الموت يقطف جهاد قلعجي،ويحجب الوجه الجميل الذي كان، وسيبقى زينة المدينة،وعلامتها الفارقة، وكتابها النادر.
لم يتوقع جهاد هذه الميتة التي فاجأته،بعدما سقط أرضا وهو يتسوق من السوبرماركت، انكسرت جمجمته ،ودخل في (كوما) استمرت اسبوعين ،وفارق الحياة.
والمفارقة انه كان يخبرني أنه يتوقع أن يموت في مكتبته،بسكتة قلبية!
في طبقة أرضية من مبنى “ستاركو”، وسط بيروت ، عاش وترعرع جهاد قلعجي.. رحالة في مكتبته الشهيرة “نوادر” التي تحتوي (جيشا) من الكتب النادرة.
وصل قلعجي إلى تلك النوادر من الكتب بعد عمل شاق وجهد.. مسيرة طويلة مع الكتاب عبر دار نشر ومكتبة كبيرة نمت على يد والده قدري قلعجي، الشخصية الأدبية والثقافية المعروفة، والذي أورث جهاد حب الكتاب، وتابع مسيرته به .
جهاد قلعجي صديقي القديم والعتيق المعتق ، لم نتفارق كثيرا،التقينا وتجالسنا وتسامرنا مئات المرات في وطنه الثاني مكتبته في بيروت.وكان يحدثني دائما عن كل شاردة وواردة تخص المدينة والكتاب ومسيرة والده المثقف الكبير،كما كان يصفه. وسألته في احدى جلساتنا في المكتبة البيروتية،ما هي أهم اهتماماتك في الحياة؟وسرعان ما جاوبني قائلا:”إن أهم اهتماماتي في الحياة هو أن أتعاطى بما أحب وبما يمتعني في غرفة تحوطني فيها الكتب، وهذا أفضل بكثير من أن أتبوأ أهم المناصب . وعندما أكون في حالة حزن أو ألم، يكفي أن تمتد يدي إلى كتاب، لأصبح أمير الأمراء” .
وصديقي قلعجي شاعر وكاتب،أصدر كتابه “المستحيل لا يتوقف”،قبل ربع قرن،جمع فيه ثمرة أحاسيسه وأفكاره الكبيرة القلقة والمستحيلة.
كان يقول صديقي الراحل: “أورثني والدي هذا الحب، وتحول إلى شغف وإدمان، فصرت حيثما حللت أبحث عن الكتاب، وكان هذا الكتاب يستريح في غرفة خاصة كانت في منزلنا، وحتى 2004 – 2005 توقفت عن إدارة دار نشر لأسباب الحرب الأهلية التي دمرت مستودعات للكتب جمعها الوالد، ومن خلال تعاطيّ مع الكتاب، شغفت بالكتاب النادر، وفضلت أن أتابع في هذا المضمار” .
ويتحدث عن الاهتمام بالكتاب النادر، وهو البعد المهني، أي أن “تعتاش من هذا العمل رغم صعوبته، ويعني ألا تكون مديناً لكن تعيش بارتياح وفرح من دون أن تراكم ثروة” .
يروي الراحل أنه بدأ العمل على الكتب النادرة منذ ثلاثين سنة، ذاكراً أنه “إلى جانب مكتبة الوالد كنت مهووساً بجمع الكتب، أجمعها وأضعها جانباً، وكان عندي مكان خاص لها، وأعشق رائحتها، وأتنشق منها الأوكسجين، وأسباب وجودي، وقلت بيني وبين نفسي إذا كنا مؤمنين أولاً، فالله اختار الكتاب، وكأن الحرف هو الأرقى والأنقى والثلج على القمم” .
يذكر أيضاً أنه جمع آلاف الكتب في ثلاثين سنة، ونظراً لما تعرضت له مكتبته ومكتبة والده من حرق ونهب، زاد قلقه على ما جمعه، فوجد أنه “من الأنسب أن أحافظ على جزء كبير منها، فوضعت جزءاً كبيراً من هذه المكتبة التي جمعتها مع مكتبة الوالد، في “معهد العالم العربي” في باريس، وبات لها مكان وقاعة ومهتمون بها، كذلك وضعت جزءاً في “مكتبة الملك عبد العزيز” التابعة للمغفور له بإذن الله الملك عبدالله، كل الكتب من 200 – 300 سنة، ومن مخطوطات كانت توجد في الدار” .
ويتحدث عما تميزت به مكتبة والده، فيلفت إلى “أهمية المراجع التي احتوتها، فكان كلما ألف كتاباً، استحضر له العديد من المراجع، ومثلاً، من أجل كتابه “صلاح الدين الأيوبي” في ألف صفحة، اعتمد على مئات من المراجع الفرنسية والإنجليزية إضافة إلى العربية” .
ويشير إلى أنه بلغ عدد الكتب التي كانت متواجدة في مكتبته بين 5 و6 آلاف كتاب، وباتت تشكل مرجعية لأي أديب أو مفكر، أو جامعة أو طالب علم يحتاج إليها .
ويذكر أنه كانت هناك مجموعة من الجرائد قبل الدخول في الحرب العالمية الثانية، حملت هموم الخوف من النازية في تغلغلها بالعالم العربي، فبدأ قدري يجمع ويؤلف منها “أعلام الحرية” سنة ،1941 وهي كلها عن محمد عبده وسعد زغلول، وجمال الدين الأفغاني، وكرومويل، وشوبان وسواهم، وفي تلك الفترة بدأ يجمع كل تراثهم، واستمر على هذه الحال حتى مرضه ووفاته سنة ،1986 كما يقول الراحل جهاد .
وعن مقتنياته النادرة، كان يقول أنه “يجمع كل الأعداد الخاصة للمجلات الأجنبية والعربية والجرائد التي صدرت في العالم، منها مثلا عدد عن فلسطين في عيد الميلاد منذ 150 سنة” إلى أمثلة كثيرة منها “أول كتاب طبع في روما لاتيني – عربي سنة 1620″، لافتاً إلى أن “كل الكتب من سنة 1500 وحتى 1650 وطبعت في روما تعتبر الأثمن في العالم، وعندي خريطة عن لبنان تعود لعام ،1500 وليثوغراف لطرابلس سنة 1600 رسمها مستشرق ألماني، وهناك الكثير من الصور والخرائط عن مكة، وهي ليست للبيع، وهي مجموعتي الخاصة”، مشيراً إلى صورة أصلية عن القدس تعود لعام ،1840 طباعة حجرية في وقتها، وليست نسخة مصورة، وأخرى عن تونس …
بغيابك يل صديقي ،تخسر العاصمة شخصية تراثية أصيلة ،وتتوقف موسوعة تاريخية تكف عن التوسع والمعرفة..
وداعا جهادنا..