متحف طه حسين.. تراث «يوقظ» الزمن الجميل!

قليلة هي المرات، التي أزور فيها القاهرة، دون الذهاب لمتحف محمود خليل وأحمد شوقي وطه حسين.

تتكرر كثيرا زيارتي لأمير الشعراء، ولعل السبب قرب المتحف من الفنادق التي اعتدت النزول بها، ويمكن متحف طه حسين هو الأقل حظا بالزيارة، والسبب بعده حيث يقع في منطقة الهرم، التي لم تعد تجذب السياح كما زمن القديم، إلا أني اليوم عقدت العزم على زيارة صاحب “الأيام”، وأنا التي أدمنت مولفاته: “حديث الأربعاء”، “الفتنة الكبرى”، “المنتخب في أشعار العرب”. وهنا اكتشفت أنّ كلانا معجبٌ بشعر أمير الخوارج القطري بن الفجاءة، وغيرها من الأعمال الهام.

طه حسين وسيد مكاوي، أظن أننا لا نرى ١٠% مما كانا يريان. هما المبصران ونحن عميان . نعم لم أهتم بأي وزارة من وزارات العرب، لا مالية ولا تجارة ولا داخلية، ورغم أن الرغيف والأمن حاجة مهمة إلا أن الثقافة هي مايشغلني.

واليوم تحديداً تذكرت الصديق الكبير والفنان الراقي فاروق حسني.

نعم تحسرت عليه وأنا في طريقي للمتحف، فلم يسبق لي أن زرته إلا بمعيّته، وهو الأنيق والحريص على النظافة والترتيب، الرجل بكل بساطة تربية إيطاليا الجميلة والأنيقة بكل معنى الكلمة، ولم يمر على تاريخ وزارة الثقافة في المحروسة، رجلاً بوسع ذائقته الثقافية والفنية، والتي انعكست على الحالة الثقافية في مصر أثناء توليه الوزارة.

في قلب شارع “مدكور” المتفرع من شارع “فيصل” والمؤدي لشارع “طه حسين” لا أحد يعلم أين موقع المتحف، إلّا كبار السن في الحي.. التفت نحوي صاحب التاكسي وقد تعب من البحث، والواضح أنه يجهل السواقة على “اللوكيشن”: ياهانم إيه اللي يجيبك الأماكن دي”؟!

لم أرد عليه، فهو باللهجة العامية “غلبان”، وإلّا فإن الرد سيكون النزول من التاكسي، وأنا أريدأن أصل قبل أن يغلق المتحف أبوابه.

الطامة عندما دخلت الشارع المثقل بالأوساخ، وقد طاله البناء الحديث البشع، حيث لم يعد في المكان سوى “فيلا رامتان”، وهو الأسم الذي أطلقه عميد الأدب العربي على منزله، ومعناه مثنى لكلمة رامة، وهي منطقة بالجزيرة العربية وتعني الكثبان الرملية، التي تتميز بطيب المرعى وجمال المنظر .

آخر زيارة للمكان، حضرت مع السفير السعودي سعد الإبراهيم وابنته الشابة لم أعد اذكر أسمها، والأميرة ريم الفيصل، حيث دشنا معرضها التشكيلي.

اليوم المكان منسي، ولا يزوره إلا القلة من العرب. بقيت لأكثر من ساعة ونصف داخل المتحف لم يدخل أحد غيري، استفهمت من السيدات اللواتي يشرفن على المتحف عن السبب، كان الرد أهل البلد نادراً ما يأتون ماعدا طلاب المدارس.

طه حسين الفلاح البسيط الأعمى، استطاع أن يبهر كبار مثقفي فرنسا، ويحصل على الدكتوراه

هناك في لبنان مثل أحبه كثيرا يقول: “كنيسة الحي ما بتشفي حدا”، نعم المثل جدا صحيح، ومعناه أن الجمال والإبداع لا يقدر من قبل أهله وهذا صحيح، وللأسف الشديد سعر البطاقة 10 جنيهات للأجانب أي حوالي ربع دولار فقط، أشتريت بطاقتين لي ولمساعدتي بـ 20 جنيه. تذكرت زيارتي لمتحف بوشكين في مدينة “سان بطرسبورغ” الروسية، وكانت بطاقة الدخول تفوق الـ 15 دولارا، وقتها انتظرنا دورنا لأكثر من ساعتين، وكان معظم من يقف في الصف الطويل من أهل المدينة، آباء وأمهات يمسكون بأيدي أولادهم، ليتعرفوا على شاعر روسيا الكبير!

طه حسين الفلاح البسيط الأعمى، استطاع أن يبهر كبار مثقفي فرنسا، ويحصل على الدكتوراه، ليترأس بعدها وزارة المعارف ويصبح عميد الأدب العربي. أعترف أني عشت لحظات في منزله لاتنسى، ابتداء من مكتبه، لمكتبته، لغرفة ابنه مؤنس، والأهم شاهدت لوحة أهداها له فنان لم أتذكر اسمه، لكنه كتب القرآن الكريم بلوحة، حيث تنتهي أخر كلمة في السورة باللون الأحمر ثم تبدأ بالاسود، وهذه اللوحة من أجمل ما شاهدت.

بالإضافة للوحات الأخرى، التي رسمها جهابذة الفن التشكيلي في ذلك الزمن، وكذلك خزانات مقتنياته في مقدمتها النظارة المدورة السوداء والنياشين، عدا “قلادة النيل” المصنوعة من الذهب الخالص، والتي كانت تمنح فقط للملوك ورؤساء الدول. حزنت لعدم رؤية القلادة، وقالت لي المرشدة في المتحف، أنها محفوظة بمكان آمن بعيد، خوفا أن يقتحم المتحف أحد اللصوص ويسرقها.

بعدها ذهبت لغرفة زوجة طه حسين الفرنسية سوزان بريسو التي غلب ذوقها على المكان، مع أنني لم أشاهد فساتينها التي سبق أن شاهدتها، وكانت جد جميلة ألوانها لاتنسى، وقد قالت لي المسؤولة أنها محفوظة، خوفا من أن تأكلها حشرات العث، أما غرفة الجلوس التي عرفت بصالون الأحد الشهير، وقد كان في مقدمة حضور الصالون نجيب محفوظ وغيره من أدباء ذلك الزمن الجميل، من ثم وصولا لمكتبته العامرة بالعربية والفرنسية واليونانية واللاتينية، وغيرها من اللغات التي أتقنها، وكذلك شاهدنا ركن آلة “الغرامافون”، الذي كان يوفده بكل الموسيقى الكلاسيكية، والمذياع الذي كان يسمع منه إذاعة القرآن الكريم…..

يالله ماهذا الكم الهائل من الجمال، فعلاً لحظات من العمر لاتنسى، ولو قدر لي أنأعود غداً لنفس المكان، لعمري أني سأعيش بنفس لحظات الوجد.

لا أخفيكم كم حلمت أن أقيم صالون ١٥ نوال الحوار بنفس المكان، الذي كان يقام فيه صالون أحد طه حسين، بحضور كل عمالقة الزمن الجميل!

الأحلام متاحة.. صح؟!

نوال الحوار
السابق
زكريا محمد شاعر فلسطين لم يمهله المرض.. «رمى المنجل» ورحل!
التالي
كيف أقفل الدولار «الأسود» مساءً؟