
لا يقدح بمشروع الفيدرالية أن يكون دعاته من المسيحيين فقط، لتنصب عليهم تُهم الإنعزالية أو العمالة أو التحريض الطائفي، كما هو حال التداول الإعلامي والسياسي الحاصل في لبنان. فالنقاش هنا ليس حول شخص الداعين إليه أو هويتهم الدينية، أو ارتباطاتهم الخارجية أو نواياهم أو استقامتهم الذاتية، فهذا كله خارج مجال النقاش، وإنما حول واقعية هذا الطرح ومعقوليته وإمكانه فضلا عن فعاليته. كما إن اقتصار مروجي المشروع على قوى مسيحية لا يعني أن باقي اللبنانيين من الطوائف الأخرى غير معنيين به. فالمطروح ليس حلا للمسيحيين فقط، أي هو ليس مشروع تقسيم، على الأقل في ظاهره ومضمونه، بل مقترح نظام بديل للنظام اللبناني الحالي يلامس مصير ووجود كل اللبنانيين، ويستحق التداول والاستفاضة في النقاش حوله، من زاوية الدقة المفاهيمية والأمانة الفكرية والحرص الوطني.
مشروع الفيدرالية في لبنان قديم جديد يخبو الحديث عنه في حالات الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي وتتصاعد المطالبة به وتشتد مع طروء الأزمات الاقتصادية الخانقة، والانسداد السياسي
مشروع الفيدرالية في لبنان قديم جديد، يخبو الحديث عنه في حالات الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي، وتتصاعد المطالبة به وتشتد، مع طروء الأزمات الاقتصادية الخانقة، والانسداد السياسي والتوتر الاجتماعي. تجلى ذلك في طرح كميل شمعون للفيدرالية إثر أزمة العام 1958، وفكرة راودت الرئيس المنخب بشير الجميل في العام 1982، وطرح الجبهة اللبنانية لها في مؤتمر لوزان في العام 1984 لإنهاء الحرب الأهلية، وتجدد المطالبة بها حاليا بصيغ مدروسة ومفصلة وأكثر واقعية، إثر راهن الانهيار الاقتصادي وصورة الخلل الهائل في ميزان القوى الداخلي، ووضعية الانسداد السياسي غير المسبوقة في تاريخ لبنان.
يستند طرح الفيدرالية إلى مسوغين أساسيين:
أولهما فشل النظام اللبناني بصيغته الحالية، في ضبط الصراعات الداخلية، ومنع التصدعات ووقف الانهيارات التي تتكرر باستمرار، بل تزداد مع السنين حدة وتدميراً، ويتعمق خطرها لتحدث انشقاقات وشروخاً، داخل المجتمع اللبناني تهدد سلمه الأهلي. ومع عجز النظام الحالي وترهله، فإن مشاعر عدم الأمان والخوف على المصير تتفاقم وتتكثف، وتدفع إلى البحث عن مصادر أمن أخرى والتفكير في صيغ نظام بديل.
فشل النظام اللبناني بصيغته الحالية في ضبط الصراعات الداخلية ومنع التصدعات ووقف الانهيارات التي تتكرر باستمرار
ثانيهما، عدم التجانس الثقافي والديني بين مكونات المجتمع اللبناني، الذي ما يزال الإنتماء الديني أو المذهبي فيه أساساً شبه حصري للهوية والتضامن الاجتماعي، وأرضية لأي ولاء سياسي.
ما أفقد الكيان اللبناني عمقه المدني، الذي يمكنه من إنتاج هوية جامعة أو متحدات فوق طوائفية، وحوَّل المجتمع اللبناني إلى مكونات مقفلة، تتجاور وتتعايش بينها رغم تقاربها وتداخلها الشديدين، وجعل المشتركات الجامعة بينها مصطنعة وغير أصيلة، ومحل تساؤل حول جدواها، بل باتت قابلة للتبدد والتلاشي، عند كل منعطف أو استحقاق أو خلاف داخلي. هو أمر عمَّق العزلة بين المكونات الفرعية ووهَّن الهوية الجامعة، على الرغم من ادعاء فرادة الكيان اللبناني، وتمايز الشخصية اللبنانية.
عدم التجانس الثقافي والديني بين مكونات المجتمع اللبناني
هذان المسوغان أنتجا، بحسب أصحاب هذا الطرح، واقعاً لبنانياً هشاً وضعيفاً، سواءٌ أكان في بنية نظامه أو تكوينه الاجتماعي. هو أمر حوَّل الحياة السياسية من تنافس على السلطة، إلى صراع على مراكز القرار واستحواذ المنافع. بالتالي وبدلا من إنتاج واقع سياسي قائم على الإجماع العام وتوافق الإرادات، باتت الساحة العامة خاضعة لمنطق الاقوى وذهنية الغلبة، ومسرحاً لكسر الإرادات وإخضاعها لصالح القوة الأقدر. ومع عجز النظام عن تأمين التوازن الضروري بين مكونات المجتمع، وعن توفير عناصر أمان وحماية للمكونات الإجتماعية، ضد تضخم قوة وهيمنة مكون آخر، فإن الفيدرالية تمثل الحل الامثل، لجهة أنها ترسم فواصل آمنة بين المكونات، تمنع تمدد قوة على حساب الأخرى، وتحفظ لكل مكون سيادته الذاتية في تدبير شؤونه الحياتية، وتضمن له استمرار خصوصيته الثقافية والتاريخية، وحمايتها من أي انتهاك أو تداخل مربك.
ولعل أهم نموذج للخلل الحاصل، يستشهد به أصحاب طرح الفيدرالية الحاليين، هو فائض قوة حزب الله العسكرية، التي فاقت قوة الدولة نفسها، ويستعين بهذا الفائض للتحكم بمسار الحياة العامة ومفاصل الحكم، أي ترسيخ وضعية هيمنة مبطنة، تتذرع بنصوص الدستور بطريقة تأويل ملتوية، ويظهر الدفاع عن السيادة، رغم أنه أنشأ دولة داخل دولة. هو راهن لا يمكن الخروج منه، بالمواجهة المباشرة ضد حزب الله، لأنها أشبه بخيار انتحاري، أو باستدعاء العقوبات الدولية عليه، التي لم تعد تجدِي نفعاً، في تقييد أداء ونشاط حزب الله، بعد أن صار بارعاً في الإلتفاف حولها.
بالتالي يكون الحل الممكن والأكثر واقعية، بحسب هؤلاء، هو فيدرالية الطوائف الكبرى: المسيحية والدرزية والسنية والشيعية. هو ترتيب ينشىء فواصل جغرافية وديمغرافية وحتى ثقافية بينها، تمنع تمدد نفوذ حزب الله، أو قوة أي مكون إلى المكونات الأخرى، وتحصر هيمنة هذا الحزب داخل الطائفة الشيعية، بعد أن بات يمثل مواقف وقناعات، أكثر المنتمين إلى الطائفة الشيعية. فالحل هو العزل بين الطوائف لا الدمج بينها، الفصل لا التداخل بينها، لتحويل مشكلة حزب الله، من أن تكون مشكلة دولة داخل دولة، أو مشكلة سلاح يقوض السيادة، أو مشكلة وطنية معني بها كل لبناني، إلى أن تكون مشكلة بين الشيعة أنفسهم، عليهم وحدهم تدبر أمرها وتحمل مسؤوليتها وتبعاتها. أي نقل المشكلة من الفضاء العام إلى الفضاء الخاص، لا بحماية هذا الفضاء وصيانته، بل تفكيكه إلى فضاءات مصغرة وضيقة، ورفع الهوية الطائفية من أن تكون هوية فرعية أو بدئية، إلى هوية وطنية حصرية وبديلة.
فالحل هو العزل بين الطوائف لا الدمج بينها الفصل لا التداخل بينها لتحويل مشكلة حزب الله من أن تكون مشكلة دولة داخل دولة أو مشكلة سلاح يقوض السيادة
يستند أصحاب هذا الطرح إلى نموذجين أساسيين، للاستدلال على إمكانية ومعقولية مشروع الفيدرالية: أولهما شاهد من تاريخ لبنان، وهو تجربة المتصرفية في أواخر القرن التاسع عشر في جبل لبنان، التي كانت ذات طبيعة فيدرالية، وشهدت ازدهاراً ونجاحاً لفترة امتدت إلى أكثر من ستين عاماً. ثانيهما النظام السويسري الحالي المؤلف من 26 كانتوناً، الذي لا يشترط وجود حدود فاصلة أو متجاورة بين هذه الكانتونات، بل تجد بلدات داخل بعض الكانتونات تابعة لكانتون آخر، بحكم المماثلة الثقافية والعرقية معه، مثل بلدات داخل كانتون “فود” تابعة إداريا ودستوريا لكانتون “فريبورغ”، ووجود بلدات داخل كانتون فيوربورغ تابعة لكانتون “فود” أو “برن”.
شاهِدَا المتصرفية والنظام السويسري، يؤشران بأن طرح الفيدرالية الحالي، يجمع بين الفيدرالية الجغرافية والفيدرالية الثقافية، مثلما كان حال القائمقاميتين في جبل لبنان من العام 1840 وحتى العام 1860. هو طرح يعالج معضلة التداخل السكاني والديمغرافي، الحاصل بين المكونات في لبنان، بحيث يحكم كل مكون طائفي، الأمكنة التي يشكل فيها الأكثرية الساحقة، وتكون المجموعات المنتمية إلى هذا المكون داخل المناطق الأخرى تابعة له إدارياً وقانونياً.
مهما يكن من أمر، إذا كانت مسوغات فكرة الفيدرالية مشروعة، ودوافعها مفهومة وشواهدها قوية، ومخاوف فقدان الأمن الاجتماعي المستندة إليها فعلية وعميقة، وإذا كان الانهيار الشامل والراهن موجب للتفكير والتحاور حول مبادىء انتظام جديد في لبنان، فإن هذا كله لا يؤهل طرح الفيدرالية في أن يكون هو الطرح البديل، بحكم وجود خيارات وبدائل أخرى، أكثر معقولية وواقعية، وأكثر استجابة لاستحقاقات وتطلعات باتت ضرورية، وبحكم أن طرح الفيدرالية يعاني من ثغرات مُهلكة، تحول دون فِعليته وتحققه، ودون قدرته على حل المشكلات المتجذرة في الواقع اللبناني… للحديث صلة.