
لا تنحصر أهمية حرية التعبير في الجانب السياسي من حياة الفرد فحسب، بل تحتلّ حيّزاً يمكن اعتباره مصيرياً في حياته النفسية. ولا يخفى ما للاستقرار النفسي من انعكاس إيجابيّ، ليس فقط على حياة الفرد، و إنما أيضاً، على الحياة المجتمعية بأكلمها.
وتعدّ حريّة التعبير، و كما هو معروف و مألوف، أحد أسّس النظام الديمقراطي، باعتباره ضامن الحريات العامة للفرد، ومن بينها حرية التعبير. بمعنى آخر، يجيز للفرد التعبير عن آرائه، وأفكاره، و قناعاته من دون خوف من وجود رقابة مستبدّة، أو بعيداً عن قمع أو ترهيب يمكن أن يمارَسا عليه.
زخر التاريخ البشري ومازال، بالكثير من الأحداث عن ممارسات القمع التي تعرّض له الكثير من الشعوب، بحيث تمّ استهداف حرية التعبير في الدرجة الأولى. و يعود السبب في ذلك إلى أنّ هذه الحرية تشكل مصدر قلق لدى الأنظمة الاستبدادية، باعتبارها تسهم في إطلاق الأفكار التغييرية، التي تحثّ الأفراد على مقاومة الاستبداد بهدف إنقاذ مجتمعاتهم.
حريّة التعبير لا تشكّل مجرد تعبير عن أفكار وإنما تمكّن الفرد من أن يتحكّم أيضا في التعبير عن نفسه
وتسهم مقاربة حرية التعبير من منظور سيكولوجي، في إظهار مدى العلاقة الوثيقة بين قمعها و بين الاستلاب، التي تعمد إلى تجذيره السلطات السياسية. بمعنى آخر، تكشف قمع حرية التعبير، كأوالية تستخدمها هذه السلطات في الإطباق على العقول و شلّها.
و يتبدّى تقدير الذات محدِّداً رئيسياً ووسيطاً في العلاقة المشار إليها، لأنه يؤدي دورها في الإسهام بتعزيز حصانة الفرد و تفتّحه النفسيين. و يعود السبب في ذلك، إلى أن حريّة التعبير لا تشكّل مجرد تعبير عن أفكار، وإنما تمكّن الفرد من أن يتحكّم أيضا في التعبير عن نفسه. ولا يخفى ما لهذا التحكّم من فاعلية في حصول الاستقرار النفسي، الذي يؤسس بدوره للتفكير العقلاني. كذلك الامر، يشعر الفرد بأن هناك من يسمعه و يفهمه و يتفّهمه و يشاركه في آرائه.. ومن الطبيعي أن يؤسس كل هذا لصحة نفسية و عقلية سويّة.
إقرأ ايضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: لبنان من الصراع داخل النظام إلى الصراع على النظام!
و إذا ما تناولنا حرمان الأفراد من حرية التعبير، فمن الملاحظ، أنه إذا ما شعر هؤلاء بأنهم مجبرون على الصمت، يصابون بالاحباط، ويدخلون تدريجياً في “غيبوبة” عن التفكير العقلاني، و كأنهم مخدّرون. وتأتي عملية التخدير هذه، لتمهّد الأرضية لعملية الاستلاب.
و يشير الاستلاب إلى حالة يشعر فيها الفرد، بأنه مغرّب و مفصول عن ذاته وعن الآخرين و عن وجوده. ولذلك تسعى السلطات الاستبدادية إلى منع الفرد من التعبير بحرية، والى إحباطه، مروراً بعزله عن التفكير العقلاني، وصولاً لإعادة تشكيله بما يتناسب مع مصالح أربابها. و تنجح بذلك في عملية استلاب شعبها.
ولأن الحرية تعدّ معياراً أساسياً من معايير التقدم في المجتمعات، فإنها تشكل وجهة استهداف عند السلطات الاستبدادية، التي ترى في تخلّف شعوبها أماناً لها.
لأن الحرية تعدّ معياراً أساسياً من معايير التقدم في المجتمعات فإنها تشكل وجهة استهداف عند السلطات الاستبدادية التي ترى في تخلّف شعوبها أماناً لها
ومن هذا المنطلق، يمكن القول أنّ الاستلاب يهدّد المعنى الوجودي للفرد، لأنه يسلخه عن هويته الخاصة و يعزله عنها.
ويفرض تناول حرية التعبير، بالمقابل، الضوابط أو الحدود التي يجب أن تتوقف عندها، و تتمثل في إثارة الفتن و التحريض على العنف، والتطاول على حقوق الآخرين و تشويه صورتهم و إهانتهم…
خلاصة القول، تعدّ حرية التعبير جوهر الإنسانية بامتياز، لأنها تمدّ الفرد بهويته كإنسان. وفي هذه الحال، لا يسعنا إلا القول : فاقد الحرية لا يعطيها!…