
أطلقت هذا العنوان على محمد حسن الأمين وهاني فحص، وثالثهما حبيب صادق. إنهم متشابهون حتى المطابقة في الشعر والعلمنة وحب الجنوب والانفتاح والوطنية والنضال من أجل القضية الفلسطينية.
عام 1958، زار سوريا عبر القنيطرة ليستلم منها حصة من أسلحة “للثورة” في لبنان. فاجأه حضور أحمد الأسعد للغاية ذاتها. بعد انتخابه نائباً في البرلمان، عام 1992، رفض زيارتها كما فعل الآخرون. على درج أحد المباني، وفي لقاء الصدفة قال له غازي كنعان، “ضعفان” استاذ حبيب، خير؟ فأجابه، لم يسبق لنا أن التقينا من قبل، فعلام بنيت المقارنة؟
لا أبوح بسر إن قلت إن حبيب صادق كان بمثابة عضو غير معلن في قيادة الحزب الشيوعي وأشهد أنه كان يحضر اجتماعات قطاع المثقفين فيه، مفوضاً لفترة طويلة بتمثيل اليسار الشيوعي في اتحاد الكتاب اللبنانيين، وكان على صلة مباشرة وتنسيق يومي مع القيادة “التاريخية” عن طريق كريم مروة المسؤول في المكتب السياسي عن الشأن المتعلق بالثقافة والمثقفين. ظل موقعه هذا محفوظاً حتى دخوله إلى الندوة البرلمانية، إذ بدأ ينظر إليه بعض أهل القيادة وأتباعهم في القواعد الحزبية كخصم أو كمنافس. تلك مرحلة بدأت تتكشف فيها أزمة اليسار.
اقرأ أيضاً: حبيب صادق.. عنوان الفكر والأدب والثقافة الجنوبية
بعد وصوله إلى الندوة النيابية، اتصل حبيب صادق طالباً مني مشاركته في عمل المجلس الثقافي. لبيت طلبه من غير تردد، ومن غير التخلي عن اختلافي معه ومع الحزب الشيوعي بشأن الموقف من الانتخابات. كان ينبغي الترشح في مواجهة لوائح المحادل لتجميع أجواء اليسار والقوى المعارضة وصونها من التشرذم. في انتخابات 1992 كنت مع بعض الاصدقاء وراء نشر الخبر المتعلق بتشكيل لائحة اعتراضية، قوامها كل من السيد محمد حسن الأمين، الأب سليم غزال، حسيب عبد الجواد، منيف فرج، د.أسعد النادري وأنا . في اليوم التالي نفى المرشحون خبر ترشيحهم وتأكد للقراء أن المسألة ليست سوى دعابة أو لعبة مكشوفة لم يعبأ بها أحد، لعبة تولى إخراجها الصديق شبيب دياب بالتعاون مع صديقه وابن بلده فيصل سلمان في جريدة السفير.
صرت نائباً للأمين العام للمجلس الثقافي، وهي “رتبة” خاويتها من غير أن أتقنها. السبب ببساطة، بحسب تعبير جورج حاوي، أن الأمين العام هو الذي يسمي أعضاء المكتب السياسي. هو قال ذلك قاصداً الحزب لكن القول ينطبق على كل المشتقات الحزبية حيث النقاش فيها مباح والأمين العام هو من يقرر في نهاية الأمر.
لست أعلم لماذا وقع اختيار حبيب صادق عليّ دون سواي من بين العشرات الذين تعاونوا معه في نشاطه الثقافي، وجعلني على مقربة منه، لكن ضمن “مسافة آمنة” لا تتخطى حدود المساعدة التي يطلبها. بات علينا إذن نحن في الهيئة الإدارية للمجلس الثقافي أن نكون كلنا مساعدين للأمين العام، مع صلاحيات شكلية خصصني بها منها أنني كنت أرافقه كظله حتى في نشاطه السياسي، إلى أن أعلن خروجه من تكتل التنمية والتحرير، وقرر أن يمارس نشاطه السياسي كشخصية يسارية مستقلة. قرار وضع الإصبع على جرحي.
ما كنت أرغب بتحقيقه في دورة 1992 الانتخابية، أقدم عليه في الدورة التالية. هو الوحيد، من بين من ترشحوا خارج لائحة المحدلة المعلّبة وفي مواجهتها، الذي يحق له أن يفكر باحتمال الفوز. فقد سبق له أن فاز عام 1972 في مواجهة الإقطاع السياسي الذي كان في ذروة نفوذه، واعترف أحد أركان السلطة بتزوير الانتخابات.
تضاعف نشاطي في المجلس الثقافي وساهمت مساهمة فعالة في تأسيس الحركة الشعبية الديمقراطية وفي التحضير لعقد مؤتمرها الأول بعيد دورة 1996، في مدينة صيدا، حيث انتخبه المؤتمرون رئيساً لها، ثم وقع اختيار الرئيس على الدكتور فؤاد شاهين المتحدر من صفوف الحزب الاشتراكي ليكون نائباً للرئيس وعليّ أنا لأكون أمين السر العام، أي كاتب محضر الجلسات مع تكريم لفظي بإضافة “العام” على أمين السر، تقرباً من رتبة الأمين العام من غير الدخول في ملكوتها.
لم تعمر الحركة الشعبية طويلاً إذ قرر الرئيس حلها من غير إعلان، قرر وحده دون استشارة من ساعدوه في تأسيسها ودفعوا ثمن انحيازهم إليه. قراره الأول عزز علاقتي به وضاعف نشاطي ورسخ انخراطي بمشروعه السياسي لتجميع قوى اليسار إلى جانب الحزب الشيوعي لا بديلاً منه، فيما كان لقراره الثاني أثر سلبي على نشاطي، واحتفظت بكل الود والاحترام لهذه القامة اليسارية واستمرت عضويتي في الهيئة الإدارية للمجلس الثقافي من غير انقطاع بضع عشرة مرة.
في رحاب المجلس الثقافي للبنان الجنوبي تحلقنا مثلما تحلق سوانا قبلنا حوله لاعباً بمهارة، خلال أكثر من نصف قرن، دور راعي الثقافة في الجنوب وفي لبنان.
سبق للحزب أن اختارني لأعمل مع حبيب، صيف1984، على سبيل العقوبة، لأنه رأى في ذلك أكثر الأساليب لياقة لإبعادي عن العمل التنظيمي، لكن القرار لم يدخل حيز التنفيذ، وذلك لأسباب تقنية، جغرافية بعد انتقالي إلى سكني وعملي في صيدا، ومالياً بعد تدهور سعر صرف العملة الوطنية. منذ ذلك الوقت بدأت تظهر في كتاباتي ملامح موقف نقدي لنهج الحزب، لا لأضع نفسي خارج النقد، فانا من صلبه، لي منه غنمه وعلي غرمه.
الانتخابات النيابية الأولى بعد الطائف أظهرت تبايناً في الموقف بين الحزب وحبيب. في هذا الظرف وقع اختيار حبيب عليّ لأكون إلى جانبه في المجلس الثقافي، لأنه سيضطر إلى اقتطاع وقت من نشاطه الثقافي وتحويله إلى نشاطه البرلماني. فاجأني في أول اجتماع للهيئة الإدارية، وهي المرة الأولى التي أكون فيها في عدادها، حين اقترحني أحدهم لموقع نائب الأمين العام، على حساب آخرين لهم أسبقية علي في نشاط المجلس. إن أنس لا أنسى أن الذي كان صاحب رغبة في تبوّء هذا الموقع غادر الجلسة في نهايتها ولم يعد.
تأكد لي أن الديمقراطية في المجلس نسخة مصغرة من مثيلتها في الحزب، ولم نكن في ذلك الوقت بعيدين عن المؤتمر السادس الذي صدرت وثائقه وفيها نص على لسان جورج حاوي ورد فيه، إن الديمقراطية في الأحزاب الشيوعية كذبة كبرى، وما يقال عن أن اختيار القيادات الحزبية يتم في المؤتمرات غير صحيح. الصحيح هو أن الأمين العام “يركّب المؤتمرات كما الفاخوري إذن الجرة”.
الأمين العام هو الأمين العام في أحزابنا أو في مؤسسات المجتمع المدني. والرئيس رئيس إلى الأبد في سوريا الأسد وفي أحزابنا ومؤسساتنا في العالم الثالث، شاء من شاء وأبى من أبى. تكيّفنا مع هذا الجو حتى صار جزءاً من تقاليدنا، فلم يعد يرضينا السلف. ربما لأننا شهدنا مرحلة من عمر أوطاننا وأحزابنا كان فيها المؤسسون أفضل من الورثة. بكينا على عبد الناصر، وتحسرنا على عهد فؤاد شهاب وعلى فترة الانتداب، مثلما استذكر خضر حلوة “نصري المعلوف وبهيج تقي الدين وحسن الرفاعي وخاتشيك بابكيان كلما سمع لغة الابتذال والسوقية على لسان سياسيين يحكمون البلد في عشرينات القرن الواحد والعشرين”.
حبيب صادق كان من طينة هؤلاء الكبار من بلادي. تعاقبنا على عضوية الهيئة الإدارية في المجلس الثقافي عشرات من الناشطين والعاملين في الحقل الثقافي خلال أكثر من خمسين عاماً تولى فيها الأمانة العامة، وانتخب خلالها لأكثر من دورة عضواً في الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب اللبنانيين، شهد خلالها لبنان، في ظل الحرب وبعد توقف الأعمال العسكرية أيضاً، أهم النشاطات والمؤتمرات واللقاءات العربية والدولية الثقافية والمعارض الفنية. كان خلية من نشاط، حزباً في فرد. بمبادرة منه أنشئ تجمع الهيئات الثقافية في لبنان وعقدت اجتماعات ومؤتمرات وأصدرت بيانات في كل مناسبة وطنية.
هذا ليس مدحاً ولا ذماً ولا أسوقه لتبرير تكاسلنا في متابعة تنفيذ المهمات بالقياس إلى دوام حضوره في كل شاردة وواردة. فهو،على ما قال لنا مرة، كان يرى مقر المجلس كأنه بيته العائلي. كما أنه كان يعد برامج النشاطات لشهر قادم أو لفصل، خلال جلساته الصباحية مع الصحف والمجلات، يتقصى منها أخبار الثقافة والمثقفين ويؤرشفها بعد استخدامها باباً للتواصل مع المبدعين والاتفاق معهم على إحياء نشاطات حول إبداعاتهم.
هذا كان لسان حالنا في غيابه. حللت محله ذات مرة لإلقاء كلمة المجلس في العشاء السنوي، فوجهت باسم الحاضرين “تحية التقدير والحب والاحترام لأستاذنا الحبيب حبيب صادق، الذي ما كان لهذا الصرح الثقافي لولاه أن يستمر من غير انقطاع، منذ أكثر من نصف قرن؛ ومع أن البعض أطلق على المجلس تصنيفاً يضعه في عداد الإقطاع الثقافي، بحجة وجود نواقص في تجربتنا الديمقراطية، فللأمانة، ما كان لأحد منا، لأي واحد ممن تعاقبوا على عضوية الهيئة الإدارية، لا بمفرده ولا لنا مجتمعين، أن نوفر للمجلس من ديمومة في أنشطته وحضوره والتزاماته الثقافية والفكرية والسياسية ما وفره له حبيب”. قلت ذلك في العشاء السنوي الأخير الذي لم يعد يطيعه جسده على حضوره، وكنا نكرر الكلام ذاته في اجتماعات الهيئة العامة التي ما كان يغيب عنها إلا نادراً ولأسباب صحية.
تجاوزت رعايته الثقافة حدود الجنوب ولبنان فوظف علاقاته مع المثقفين العرب في خدمة المجلس واستقبل على منبره وفي قاعته كل نتاج ثقافي أو فني جديد. كنت من بين المحظيين بتشجيعه على كتابة أول بحث عن الشاعر عبد المطلب الأمين، كما كان له فضل في تشجيعي على كتابة نص عنوانه تجربتي في ساعة. لكن فارق الظروف كان كبيراً. بناء لطلبه واقتراحه كتبت النص الأول عن عبد المطلب الأمين في نهاية 1981 في غمرة انشغالاتي النضالية في الحركة الوطنية. كتبت النص الأول وكنت لا أزال في التعليم الثانوي. أما النص الثاني فله حكاية أخرى.
دامت عضويتي في الهيئة الإدارية للمجلس الثقافي منذ دخوله الندوة النيابية حتى اندلاع الثورة وانتشار وباء كورونا. كان حبيب يميل إلى حشد ثلاثة على المنبر في كل ندوة ثم يضيف إليهم واحداً من أعضاء الهيئة الإدارية ليقوم بواجب الترحيب وتقديم المنتدين. عام 2012، وعلى عادته، طلب مني أن أقدم ندوة لم أعد أذكر موضوعها ولا المشاركين فيها، اعتذرت منه بلياقة لا تخلو من شكوى مضمرة. وعلى عادته أيضاً، مبادراته حاضرة دوماً. قال، لك أنت المنبر يا عزيزي، تعال حدثنا عن تجربتك بعد استقالتك من الجامعة. مبادرة عزيزة علي لأنها جعلتني أحظى بمجاورة السيد هاني فحص على المنبر.
كانت ندوة “بتراء”. الصحافي كامل جابر، كما في كل ندوة في النبطية، كان يتولى تقديم المحاضرين أو يختار من يقوم بهذا الدور بالتنسيق مع حبيب. هذه المرة كانت ندوة بلا تمهيد. دعانا إلى الصعود بإشارة من يده وبكلمة “تفضّلوا” من غير أن يقدمنا أحد.
حرصاً مني على علاقات الود والاحترام والخبز والملح، أقنعت نفسي بأن ما حصل يتعلق بذيول آخر دورة انتخابية في النبطية. لم أعاتب، لكن شيئاً ما انكسر في علاقتنا الوطيدة، وكان قد بدأ يهتز منذ أواخر التسعينات، يوم قرر حبيب حل الحركة الشعبية الديمقراطية، من غير الرجوع إلى أحد من شركائه ومعاونيه أو رفاقه في قيادة الحركة التي عقدت آخر اجتماعاتها في منزلي الكائن في عبرا شرق مدينة صيدا في أواخر صيف 1998.
كنا، نحن مساعدوه وزملاؤه في الهيئة الإدارية نتعامل معه كأب روحي لنا، لا لأنه بنى فحسب مؤسسة المجلس ورعاها ورعى نشاط المثقفين من خلالها، مثلما يرعى أي أب عائلته بكل الحب والإخلاص والتضحية، إذ كان يستيقظ في مقر المجلس الذي ابتاعه بأموال المتبرعين من أصدقائه، وجمع فيه كتب الجنوبيين، وشجع على منبره الباحثين على البحث وأصحاب المواهب الأدبية والفنية على إبداعاتهم في الشعر والموسيقى والرسم والنحت، ولا يغادره إلا مع آخر زائر بعد غروب الشمس، بل أيضاً لأنه كان مدرسة تعلمنا منها قيماً يعز وجودها بين أهل السياسة، منها النزاهة والاستقامة وصلابة الموقف والزهد بكل ما يتعلق بالأموال والنقود.