
النجف مدينة الحوزات العلمية الشيعية، والثقافة المتنوعة، والأسر الدينية العريقة، وهي قبل كل شيء مدينة الإمام علي بن أبي طالب ومثواه الأخير، وهذا ما جعلها قبلة الشيعة في العالم ومهوى أفئدتهم.
الهابط في مطار النجف سرعان ما يلحظ تعدد الجنسيات الاجنبية فيه، إيرانيون وباكستانيون وهنود، كلهم يقصدون زيارة ضريح أمير المؤمنين للدعاء والتبرك، ثم نعود لنرى هؤلاء الغرباء في قلب المدينة بحضرة الضريح وصحنه لاحقاً، يشكلون الغالبية العظمى من الزوار، حيث يصبح فعلاً لا قولاً أن “الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان”، على حد قول الشاعر المتنبي، مع العلم ان اهل النجف الأقل حول الضريح هم عرب اقحاح وعشائرها معروفة مشهورة.
اقرأ أيضاً: في حضور علمائي وثقافي وإعلامي حاشد.. مؤسسة الخوئي بالنجف الاشرف تحتفي بذكرى العلامة الراحل الامين
ولما كنا جماعة من الشيعة اللبنانيين، رجال دين ومدنيين في ضيافة مؤسسة دار العلم التابعة لمؤسسة الإمام الخوئي (قده)، مستمتعين بكرم ضيافتها، فإنه سرعان ما فتحت لنا العائلات العلمية الموقرة أذرعتها وقلوبها، وهي ذات تاريخ عريق حافل في العطاء العلمي وبذل الغالي والنفيس في سبيل إعلاء شأن الطائفة في العراق وجعلها أكثر تعلّماً وتحضّراً وورعاً.
التنوّع الثقافي
من دار العلم للتعليم الديني وضيافة مؤسسة الإمام الخوئي بشخص رئيسها المثقف الدكتور جواد الخوئي، إلى معهد العلمين بضيافة آل بحر العلوم الكرام بقيادة السيد الشاب الدكتور زيد بحر العلوم، حيث عقد لقاء ضمنا ونخبة من العلماء و الاساتذة الجامعيين النجفيين في مكتبة المركز، إلى ديوان الشيخ محمد الخاقاني حارس ثقافة النجف وأمين تراثها، إلى ديوان آل الحكيم حيث كانت تعقد الجلسات التي كان يديرها المرجع الراحل الشيخ محمد سعيد الحكيم.
الأُسر الدينية العلمية تتصدر المشهد في النجف ولكن مخطئ من يظن أن النجف ذات تاريخ ديني فحسب، بل هي ذات تاريخ مدني فكري متنوّع أيضاً
الأُسر الدينية العلمية تتصدر المشهد في النجف، ولكن مخطئ من يظن أن النجف ذات تاريخ ديني فحسب، بل هي ذات تاريخ مدني فكري متنوّع أيضاً، كما عبّر بذلك أحد الباحثين في لقاء ثقافي في معهد العلمين للدراسات العليا، ولقد كنا عرضنا سابقاً للحركة الفكرية الثقافية في النجف خلال منتصف القرن الفائت، وكيف خرّجت علماء متنورين، وكذلك نشطاء وأدباء ماركسيين منهم لبنانيون الذين عرضنا سيرهم الدكتور حسين مروة والشاعر محمد شرارة، وغيرهما ممن لم نعرض سيرهم بعد.

أربعة أيام وليال بضيافة العلماء الأشراف في مؤسسات العتبة العلوية، مليئات بالندوات والجلسات والشعر والأدب، كشفت لنا العمق الثقافي لمدينة النجف، فمن ندوة حول فكر الراحل المفكر الإسلامي السيد محمد حسن الأمين في مؤسسة البلاغي التابعة، للإمام الخوئي حضرها نخبة متعلمة مثقفة من المدنيين والدينيين، وألقيت فيها الكلمات والقصائد البكر، إلى لقاء فكري أداره الدكتور المفكر عبد الأمير زاهد في مركز “جمعية المنتدى الوطني للأبحاث والحوار”، وحضره أيضاً حشد من العلماء والأدباء والشعراء من لبنان والعراق، وتركز النقاش والحوار فيه حول النهج الفكري والأدبي والشعري للأمة السيد محمد حسن الأمين.
ترفع مرجعية النجف وأنصارها ومؤسساتها والعاملين في خدمتها عن العمل السياسي والابتعاد عن الاحزاب جعل من تلك المرجعية حكما في الامور العامة وكيانا متعالياعن الأطماع المنافع السياسية والمالية التي يتصارع حولها السياسيون.
وبعد تأمين كل متطلبات الإقامة الكريمة من مضيفينا في دار العلم التابعة لمؤسسة الخوئي، بدأ تنظيم الرحلات الدينية من قبلهم، فسرنا امتارا قليلة إلى صحن الإمام علي(ع) وضريحه المقدس، حيث زحام الزائرين وتمتمات دعواتهم، فيشعر الزائر انها صدى لمناجاته ودعواته، وبعدها تم تجهيزنا لزيارة مدينة الكوفة الملاصقة للنجف، وكان اتخذها الامام علي مقرا لحكمه في خلافته، فدخلنا مسجدها التاريخي وقرأنا الزيارة والفاتحه عن روحه امام المحراب الذي استشهد فيه وهو يصلي عندما ضربه الخارجي بالسيف على رأسه فقال في هذا المكان قولته الشهيرة: “فزت ورب الكعبة”.
وفي اليوم الثاني انطلقنا موكبا سيّارا الى مدينة كربلاء في ساعة سفر برّي، حيث مرقد الامام الحسين واخيه العباس واخوتهم وأصحابهم الشهداء في ملحمة الطف المشهودة، وامام عظمة مشهد زحام الزائرين الباكين حول ضريح ابن بنت رسول الله، يستحضرنا قول المرجع الشهير السيد محسن الأمين بتعريف التشيع عندما قال في كلمات موجزة بليغة: “أصل التشيّع.. البكاء على الحسين!”.
يستعيد الشيعي نقاء تشيّعه في النجف وكربلاء، في رحاب الأئمة المستشهدين، نابذاً في أيام الزيارة المباركة هموم الدنيا ومشاغلها، ناسياً أو متناسياً جور السياسيين وأحزابهم الظالمة في لبنان والعراق، الذين يسيؤون يومياً بتسلطهم وفسادهم لتاريخ بلادنا الحافل بالتضحيات وبالرموز العظيمة التي كوّنت ثقافة وحضارة نفخر بها جيلاً بعد جيل.
المرجعية خيمتنا
ولما كنا نسمع من العراقيين الذين نلقاهم شكواهم من فساد الساسة وجشعهم، فإننا بالمقابل نسمع منهم الكلام الحميد بحق “المرجعية الرشيدة”، المتمثلة حالياً بزعيم الحوز العلمية الأكبر السيد علي السيستاني، ولعل العامة من الشيعة العراقيين أكثر بلاغة في التعبير عن قرب المرجعية من قلوبهم بعبارتهم اللازمة المشهورة: “السيد السيستاني خيمتنا.. الله يحفظه”.

فترفع مرجعية النجف وأنصارها ومؤسساتها والعاملين في خدمتها عن العمل السياسي والابتعاد عن الاحزاب، وكذلك عدم السماح للسياسيين بزيارة المرجع السيد السيستاني تحت أي ظرف، جعل من تلك المرجعية حكما في الامور العامة، وكيانا متعاليا عن الأطماع المنافع السياسية والمالية، التي يتصارع حولها السياسيون.
يستعيد الشيعي نقاء تشيّعه في النجف وكربلاء في رحاب الأئمة المستشهدين نابذاً في أيام الزيارة المباركة هموم الدنيا ومشاغلها.ناسياً أو متناسياً جور السياسيين وأحزابهم الظالمة
وأخيراً فإنه في الذكرى الألفية لتأسيس مدينة النجف، التي ظهرت للوجود قبل ألف عام، كحاضرة حول ضريح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في عهد الخليفة هارون الرشيد العباسي، وفي غمرة التحضير لهذه المناسبة من قبل الحوزات والأندية الثقافية، فإنه ينتظر في الشهور المقبلة ان تتحوّل النجف إلى قبلة المسلمين كافة، وليس فقط جمهور الطائفة الشيعية فحسب، خصوصاً إذا تضافرت الجهود لإقامة الحفل المنشود كي تشمل دعوات توجّه لكافة الدول الإسلامية كما هو مقرّر، وينقل فعالياتها الوسائل الإعلامية العالمية.
اقرأ أيضاً: إحتفاء لذكرى رحيله.. باحثون في «جمعية المنتدى الوطني» في النجف يتبحرون في فكر العلامة الأمين
ما يقرّ الأعين أن جيلاً جديدا يظهر بهذه الأثناء في النجف، قوامه مثقفون مدنيون ورجال دين من الشباب الملتزم والمجدّد الذي يؤمن بالتنوّع ويدعو للتجديد وتلاقح الأفكار، مستعيدا بذلك جيل العصر الذهبي للمدينة في ستينات القرن الفائت، يمكن أن يمهّد لطفرة نهضوية جديدة، عمادها هذه المرة عقد مصالحة نهائية بين الشريعة والحريات المدنية التي ينادي بها العالم أجمع، والسماح للحداثة القائمة على الديموقراطية وحقوق الانسان، بالدخول من الباب الواسع الى قلب الدين وعقله، تماما كما كان ينادي المحتفى به المفكر الاسلامي السيد محمد حسن الامين طيّب الله ثراه.