
لم تعد الأسماء المرشحة، بكفاءاتها وخبراتها وقدراتها وعصاميتها، هي المدار في حسم الملف الرئاسي. ولم يعد معيار أكثرية الأصوات النيابية هو الحاسم أو المرجع في تقرير من يكون رئيساً.
ولم تعد معركة الرئاسة نفسها، استجابة تلقائية لاستحقاق دستوري يكرر نفسه، عقب انتهاء ولاية رئيس سابق، ولم نعد أمام لعبة منافسة منضبطة تقرر قواعدها نصوص الدستور الحالية.
لم يعد المهم من يكون رئيساً بل المهم من يأتي بالرئيس ولم تعد الرئاسة اختبار لصدقية مبادىء اللعبة السياسية القائمة بقدر ما هي اختبار لقوة الفاعلين على تغييرها
باختصار لم يعد المهم من يكون رئيساً، بل المهم من يأتي بالرئيس، ولم تعد الرئاسة اختبار لصدقية مبادىء اللعبة السياسية القائمة، بقدر ما هي اختبار لقوة الفاعلين على تغييرها، وفرض أصول جديدة لمستقبل الحياة السياسية في لبنان.الفرق بين طرفي المواجهة: أن الأول فلنُسَمِّهِ الثنائي الشيعي (في الظاهر، وحزب الله في الجوهر).
هذا الطرف في وضعية هجومية واقتحامية، يسعى إلى تغيير قواعد اللعبة السياسية في لبنان، بطريقة هادئة وبطيئة، لكن فاعلة ومؤثرة.
أما الطرف الثاني الذي يصح تسميته بالمعارض للثنائي، أو المعارض لحزب الله على وجه الخصوص. وهي تسمية سلبية، لا تتعدى أكثر من المسعى للحد من تقدم هذا الثنائي، في ضم الرئاسات الثلاث إلى وصايته. بالتالي لا يحمل الطرف الثاني تصوراً إيجابياً، أو رؤية مستقبلية لمسألة الدولة وقضايا الحكم.
الرئاسة الأولى باتت من زاوية الموازين الموضوعية للقوة تحصيل حاصل لحزب الله وحقا طبيعيا له من وجهة نظره الحالية
أي لا يحمل مشروعاً بقدر ما هو في وضعية دفاعية، لمواجهة مشروع كاسح لا كوابح دولية أو داخلية له، دفَعَه (أي المعارض) إلى خوض معركة بقاء واستمرارية، لا معركة رؤية أو برنامج أو معنى أو حتى تغيير نحو الافضل.الرؤية المقترحة لتفسير المشهد الرئاسي بهذه الطريقة، ليس جديداً أو فجائياً، بل يعبّر عن سياق متلاحق ومتراكم من الأحداث، يمكن ملاحقة حلقات هذه المشهد المتعاقبة منذ حرب 2006. هي قراءة لا تحاكم النوايا، فالسياسة لا يوجد فيها خبيث أو طيب، إنما تفهم لا بعزل الأحداث المتتالية بعضها عن البعض الآخر، وإنما بتلمس رابط يجمعهما، والكشف عن تطورات موضوعية وقوى دفع، تدفع باتجاه وضعية وترتيبات سياسية جديدتين.
يمكن رصد عدة محطات، حملت بذاتها تحولات ودلالات، يظهر الوصل بينها مساراً منطقيا وطبيعياً لتعاقبها ومآلاتها المقبلة. أولى هذه المحطات هي حرب 2006 نفسها، التي كانت ثمرتها استيعاب الفراغ الذي أحدثه الانسحاب السوري من جهة، والدخول في ساحة الصراع أو التنافس السياسي في لبنان من باب فائض القوة، الذي حقق إنجازات نوعية على مستوى الداخل، أهمها احتلال العاصمة عام 2008، وفرض جملة شروط ووضعيات أسهمت جميعها، ولو على مراحل، في كسر مركز القوة المنافس والمهدد، وهو القوة الحريرية، أو إذا شئت، السنيّة السياسية المسنودة بالدعم السعودي.
كانت المحطة الثانية التي تداخلت مع المحطة الأولى زمانياً، هي الحلف الشيعي (الممثل بحزب الله) الماروني (الممثل بالتيار العوني). كان غرض هذا الحلف إنهاء الزخم السني، وإعادة الاعتبار للرئاسة الأولى، بعدما وصلت إلى حالة عالية من التهميش والشكلية البروتوكولية، مقابل تأمين الغطاء السياسي لسلاح حزب الله، بمسوغات غير مُقنِعة، لكنها كافية له من الوجهة القانونية والشرعية.فَهِمَ الطرف العوني هذا الحلف، بأنه حلف بين الأنداد أو النظراء.
بالتالي مثّل بالنسبة إليهم مقايضة متساوية ومتوازنة بين الطرفين، تكون مقتضياته بقاء منصب الرئاسة الأولى في عهدة التيار العوني، ليس في عهد الرئيس ميشال عون فحسب، وإنما لعهود متعاقبة تأتي. لكن توازن التوزيع، يتطلب توازنا في ميزان القوّة بين الطرفين، وهذا ما لم يستطيع التيار العوني استيفاءه أو الاحتفاظ به.فالأزمة الإقتصادية، والعقوبات الأمريكية على جبران باسيل، وتدني العمق الشعبي للتيار العوني في الشارع المسيحي، وتصدر حزب القوات صدارة التأييد المسيحي، وتضخم قوة حزب الله العسكرية وارتفاع درجة تعقيده هذا السلاح، بالقياس إلى فترة تفاهم مار مخايل، إضافة إلى غياب الخصم المشترك بينهما، وهو القوة السياسية السنيّة، التي استقرت على اعلان الانسحاب الكامل من ساحة المواجهة، إضافة إلى رفع السعودية يدها عن لبنان، وتخليها عن دور اللاعب المرجع والفاعل في الحياة السياسية.
هذه الأمور مجتمعة، أحدثت خللا هائلاً في حجم ونوعية الإمكانات التي يحوزها الطرفان، وحوّل التيار العوني إلى حليف ثانوي يمكن الاستغناء عنه سياسيا وقانونيا. وهو أمر تسبب بنهاية موضوعية لتفاهم مار مخايل، بعد أن بات حزب الله قادراً على تنفيذ برنامجه السياسي، من دون حليف يساويه أو يناظره في عملية إنتاج السلطة وتوزيعها.
بالنسبة لمكيافيللي، السلطة بذاتها تقصد ذاتها، مع قطع النظر عمّن يمسك بها. أي هي تسعى إلى الإزدياد والإطلاق، لأن الذي يحكمها ليس المعيار الأخلاقي، الذي هو بنظر ميكيافيللي أجنبي عن حقيقتها وطبيعتها، بل يحكمها الدافع الذاتي إلى خلق القوة التي تمكنها من التحكم والبقاء والتوسع. بالتالي، فإن توسع القوة وتضخمها لا بد أن يتناسبا مع السلطة والنفوذ، اللذين تحوزهما هذه القوة.
إقرأ أيضاً: بعدسة «جنوبية»..بيتر بوصعب وويليام نون خارج الملاحقة القضائية!
هذا يعني أن رئاسة عون التي جاءت حينها في سياق مقايضة شبه عادلة بين الطرفين، فإنها لم تعد كذلك الآن، بحكم ضآلة وتهافت حضور وقوة التيار العوني من جهة، وبحكم غياب أي شريك مسيحي يوازن الحزب في قدراته أو فاعليته السياسية.
الطرف الثاني الذي يصح تسميته بالمعارض للثنائي أو المعارض لحزب الله على وجه الخصوص وهي تسمية سلبية لا تتعدى أكثر من المسعى في ضم الرئاسات الثلاث إلى وصايته
بالتالي، فإن النتيجة الطبيعية لذلك، هو أن الرئاسة الأولى، باتت من زاوية الموازين الموضوعية للقوة تحصيل حاصل لحزب الله، وحقا طبيعيا له من وجهة نظره الحالية. هو أمر أفقد الرئاسة حيثيتها المسيحية أو المارونية، وباتت بالكامل ذات حيثية شيعية، وإن كان الذي يمارس مهامها شخصاً مارونياً.لا يبدو أن حزب الله في وارد التراجع، لأن التراجع يكسر سياق الإنجازات المتراكمة، التي حققها لعدة عقود في الساحة اللبنانية. فتراجعه سيؤدي، بنظره إلى كسر هيبة سلاحه، أو قد يعتقد أنه خذل تطلعات جمهوره، ولم يستثمر كفاية إمكانات وقدرات وطموحات سلاحه.
يتأكد هذا حين نعلم أن فكرة الإنتصار عند حزب الله، ولو في السياسة، تحمل دلالة عقائدية، تُشعره أو تُشعر جمهوره بأنه مؤيد من الله، وأن تراجعه وخسارته السياسية علامات تخل رباني عنه. أما في المقلب الآخر، ورغم شكليات الإجماع على مرشح واحد، فلا يبدو أنه يملك معطيات قوة ذاتية ودولية، توازن أو تحدّ من إصرار التقدم الثابت الذي يملكه خصمه. لن ينفع استحضارُ بعضِ الساسة (المتضررين والمتذمرين من الوضع الراهن) المثلَ المأثور: “أُكلت يوم أُكل الثورُ الأبيض”، بل ينفع أن نفهم، لماذا صار الأسد أسداً يَأكُل ولماذا صار الثور ثوراً يُؤكل.