الشاعر العربي الفرنكوفوني الكبير صديقي الراحل صلاح ستيتية (توفى 19أيار2020) تبقى مسيرته وتستمر مهما أوغل في الغياب.مسيرة اختارها لنفسه، وربما هي التي اختارته. لذلك لا بد من القول انه الشاعر الذي خلق حالة لا يمكن زوالها على مدار الزمن الممتد(…) جمعتني بصديقي الراحل لقاءات وجلسات،خاصة وصحافية كثيرة في بيروت وفي باريس ، وفي كل لقاء او جلسة عابرة أو “دردشة” معه ، كنت استفيد منها الكثير من المعرفة والثقافة والعلم والشعر طبعاً.
إن ما كتبه الراحل يصعب تحديد مصدره النهائي. وهنا تكمن الخصوصية الشعرية التي تتفجّر دائماً في كيانه.
في الذكرى الثالثة لغيابه ،أقتطف جزءً من حوارات طويلة كنت أجريتها معه:
كلما يولد سؤال الشعر الخاص بصلاح ستيتية تولد صورة مغايرة له، ولكنها تكون كالبقية الضرورية المتممة للحالة الشعرية التي يمثلها. فماذا قال يوماً ما لكاتب هذه السطور؟:
• من انت، شاعر يعيش في الخيال ام انك الخيال الذي تكتبه؟ هل تبدل التعريف ووجدت نفسك في متاهة ما، او طمأنينة ما؟
حين اصغيت الى هذا السؤال، شعرت بالحضور والغياب وفي لحظة تشبه الومضة. كدت ارى هذا الشعور بعد ان تحسسته جيداً. حتى هذه اللحظة، لم اعثر على التعريف النهائي الذي يمكن ان اتحدد في داخله. كل التفاسير ذهبت ولم تستقر. كل ما يمكنني قوله انني ما زلت اواكب حريق الحياة، اغيب وأحضر واستعد لكل المفاجآت الممكنة والمستحيلة. هل وجدتُ نفسي وأين؟ اعتقد ان الحياة مساحة غير مستقرة للبعض، لاولئك الذين يعيشون القلق العارم والكبير والذي قد يولد فجأة وفي اي لحظة. ان حساباتي مع الحياة قد تكون خاسرة وربما تكون العكس. ولكن في محصلة الامر، تبقى هذه الحسابات على نار قوية وتكاد تكون حرارتها تعادل الزمن كله.
• كأنك تسعى الى هذا القلق، هل هذا السعي اساس في شعرك؟
لا اسعى الى هذا القلق ابداً، انما هذا القلق هو الذي يتقدم نحوي ومن كل الجهات، ولا يستقر في زاوية محددة. يدور ويحوم ويخرّب ويجاهر بكل ما هو غير محدد. وفي حالة مماثلة، وداخل تلك اللحظة المتفجرة، ينبري الشعر لوظيفة الحضور التي تعطيني جرعات كبيرة من الوعي، تفتح البصيرة على مداها، حيث تبرز التفاصيل على اختلاف ظلامها ونورها.
• انطلاقاً من جوابك حول الشعر، كيف تعرّف اليوم هذا الشعر، وقد سمّاه بعض الشعراء المستحيل الذي نملكه ولا يمكننا معرفته؟
قلت دائماً ان الشعر هو حاجة لكل حاجة، لا تكتمل الحاجة من دون الشعر. انه زهرة لا تذبل، وكلما واجهت الزمن تألّقت اكثر وانتشر عطرها في الارجاء وفي الكيانات. وقبل هذا كله، الشعر هو لغة اللغة. لكل حياة لغة، لكل شعب لغته، واللغة التي يعتمدها الكائن – الانسان وغير الانسان، كالتراب والجغرافيا والبحر والطيور هي من اشارات الحياة والمعنى في الزمان، ودور الشعر هنا هو النطق بهذه الاشارات، فكيف لا يكون لغة اللغة؟ الشعر يحمل كل تعريف صعب ومستحيل، ولا ينطبق عليه الا ما يولد فجأة في فم الحبيب او في فم الضحية. انه لغة المفاجأة التي ترتسم فجأة وتبقى مفاجئة حتى لو تكررت آلاف المرات.
• ماذا تكتب اليوم؟
الكتابة بالنسبة إليّ كل نشاطي وهي الوجه او المرآة الصافية لحياتي، لذلك اكتب دائماً، وحين لا اكتب، اخرج الى مساحة اعجز عن تفسيرها. ما اكتبه اليوم هو مشروع القلق الذي انطلقت منه، وما زال هذا القلق يطرق باب ايامي بقوة زائدة. وكلما فاض العمر يوماً، فاض الحرف حرفاً. لا مجال لهذه المسيرة ان تتوقف ولا يمكنها ان تتوقف. هذا القلق هو الطمأنينة داخل القصيدة، والقلق خارجها، فحين تحل لحظة الكتابة يتبدد القلق، وحين اغادر لحظة الكتابة ينفجر القلق. وهكذا، تستمر اللحظات وتتوزع بين افكاري وروحي وزمني.
• ما المواضيع المحددة اليوم في اشعارك؟
كتبت عن الوجود، وعن الانسان بما يمثل من حضور غرائبي في الزمن المتكرر وغير المتكرر. ومواضيعي اليوم تواكب هذا المعنى وتقاربه من جوانب متعددة. كل ما اكتبه اليوم انتاج صراع مع الحياة وما تستولده في اللحظات الصعبة. الانسان اليوم يعيش في ازمة وجود، ووصلت به الحياة الى اختزال نفسه، او الغاء نفسه. يستعجل الانسان الوصول الى المتاهة من دون ان يحسب لها اي حساب، وحين يسقط فيها، يشعر بالندم، ولكن ما نفع الندم؟ ما اكتبه اليوم هو السؤال الذي يشبه الحريق: هل يتطور الانسان في زمنه الحديث في ظل الارهاب الذي يمارسه على نفسه؟ ماذا يعني ان يقول الانسان بالغاء اخيه الانسان؟ ماذا يعني الوجود حين يقوم البشر بحرق حضارتهم وزمنهم والتلهي بعذابات لا نتيجة منها سوى الموت والدمار والخراب؟ ان البشرية تتراجع وتنحدر سريعاً في مساحة موتها. يغيب العقل ولا من يسمع لنداء الحياة. كلها اسئلة تخرج من حروف اشعاري اليوم وغداً.
• هل يمكن ان يكون الشعر هو الخلاص؟
ربما لو كان الشعر سيداً في الوجود لفازت البشرية بحضارة هائلة. ولكن لا يمكن للشعر ان يتحكم في مسار الوجود في ظل طغيان العقل المادي والطمع والكره وما سوى ذلك من الاوهام التي تسيطر على الانسان. الشعر نقي لا يمكن ان يتلوث بمتاهات الانسان وخصوماته، لذلك هو في منأى. وفي لحظة يمكن تسميتها بلحظة الغياب المباشر، يبقى الشعر عذوبة لا تعترف بها الكراهية.
• يبدو انك تتذمر من الحضارة المصطنعة التي ننعم بها في عصرنا الحديث؟
التذمر هذا هو عصب المعنى الذي انطلق منه، وتتحرك في مساحته قصيدتي. وهو تذمر بالمعنى المبرر والقادر على تفسير نفسه بما يرضي الذات الشاعرية.
• ما جدوى الكتابة في حياتك؟
لولا الكتابة لكانت حياتي في مهب كل احتمال. ان جدوى الكتابة في حياتي كانت مثمرة وناجحة. ناجحة بمعنى انها حفظت حضوري جيداً، وساهمت في حماية روحي من غارات الزمن المؤلف من حضارة انسانية متعثرة، او غير قادرة على تلقين الانسان درساً في الوعي الوجودي. جدوى الكتابة في حياتي انها رسمت لي الطريق لكي اصل الى ركن انسانيتي، ومازلت ابحر في الزمن، في الانسان، في الوجود، على متن القلق الكبير.