شهدت الساحة السياسية الإيرانية في الأسابيع الأخيرة تحولًا في الأحداث لم يكن ليتوقعه سوى قلة من المراقبين. فبالإضافة إلى اتساع نطاق المعارضة من غير المحافظين، تجد إدارة إبراهيم رئيسي اليوم نفسها في مواجهة احتجاج شريحة رئيسية محسوبة على قاعدتها الداعمة وتتمثل هذه الشريحة في الرواديد الشيعة المؤثرين.
يقيم الرواديد أو المنشدون الدينيون مجالس عزاء في ذكرى استشهاد أئمة الشيعة. ويمكن لهذه المناسبات أن تجتذب الآلاف من المصلين الذين يبكون في مجالس علنية ويضربون على صدورهم بشكل إيقاعي تخليدا لذكرى الشخصيات الدينية الشيعية التي يوقرونها.
اقرأ أيضاً: نقاشات شيعية لما بعد الإتفاق الإيراني – السعودي: أي دور وأي مشروع؟
بشكل عام، حظي الرواديد بنفوذ سياسي متزايد في ظل الجمهورية الإسلامية. فمنذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي، برز المنشدون الدينيون المعتمدون من الدولة كسلاح قوي استفادت منه السلطات. فقد تم استخدامهم بشكل روتيني لتسليط الضوء على خصوم المؤسسة السياسية واستهدافهم. كما حشد هؤلاء المنشدون الدعم للدولة أو لبعض المعسكرات السياسية بشكل مشابه لطريقة استخدم النظام الملكي المخلوع لبلطجية الشوارع سيئي السمعة لترهيب معارضي الشاه.
تصاعد النفوذ
في حين لعب الرواديد الشيعة منذ البداية دورًا سياسيًا مهمًا في تاريخ الجمهورية الإسلامية غير أن نفوذهم قد تزايد منذ التسعينيات. ومع وصول الرئيس المحافظ السابق محمود أحمدي نجاد (2005-2013) إلى السلطة، وصلت قوتهم إلى ذروة جديدة حيث لعبوا دورًا مهمًا في حشد الدعم السياسي للسلطات من الشرائح الدينية في المجتمع.
واستمر هذا التوجه في عهد خليفة أحمدي نجاد المعتدل حسن روحاني (2013-2021)، عندما انضم كبار الرواديد إلى حملات متشددة ضد أجندة الحكومة المؤيدة للإصلاح. وشملت الأهداف البارزة في ذلك الوقت التواصل المباشر لوزير الخارجية محمد جواد ظريف مع نظيره الأميركي، ما أدى في النهاية إلى توقيع الاتفاق النووي مع القوى العالمية الست في عام 2015.
وبحسب ما أُفيد، استعان المتشددون أيضًا برواديد متحالفين معهم للتأثير على اتجاه سياسات إيران الإقليمية. وأدى اقتحام المتظاهرين للسفارة السعودية في طهران في يناير/كانون الثاني 2016، إثر قيام الرياض بإعدام رجل دين شيعي معارض، إلى قطع العلاقات الثنائية بين البلدين وبقيت الأمور على حالها حتى الفترة الأخيرة. وفي أعقاب الحادث البارز، تم الكشف عن أحد القادة الرئيسيين وراء اقتحام السفارة، وهو حسن کردمیهن وهو رجل دين محافظ ورادود ناشط سياسيًا.
أُفيد لاحقًا بأن کردمیهن هو عضو في الحملة الرئاسية لقائد القوات الجوية في الحرس الثوري الإسلامي، محمد باقر قاليباف. كما أُشيع بأن المتشددين استعانوا بکردمیهن في حادثة اقتحام السفارة السعودية لتقويض أجندة روحاني في السياسية الخارجية التي كانت تهدف إلى إصلاح العلاقات مع دول المنطقة والغرب.
ليسوا كأسنان المشط
في حين تستعين الدولة بشكل روتيني برواديد متحالفين معها، من الضروري الإشارة إلى أن ليس كل الرواديد الدينيين مرتبطين بالمؤسسة السياسية. فبعضهم ليس مسيسًا تمامًا، بل وإن أقلية منهم تعارض صراحة الجمهورية الإسلامية ويذهب بعضهم لانتقاد المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي والمؤسسة في كلمات أناشيدهم.
فقد انتقد بعض الرواديد الشيعة البارزين الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في البلاد، وبدأوا يتحولون فعلًا إلى تهديد محتمل في أعين الجمهورية الإسلامية لأن أصواتهم مسموعة جدًا، ولذلك يدفع هؤلاء المنشدون الدينيون ثمن أفعالهم. على سبيل المثال، انتقد حميد عليمي وهو رادود ذو شعبية كبيرة روحاني ورئيسي على حد سواء بسب أدائهم الاقتصادي السيئ.
ردًا على هجمات المتشددين، كتب عليمي في 26 مارس/آذار أن الهجوم الذي يشنه المتشددون الإيرانيون الفاعلون في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الأخلاقية أو الثقافية أو السياسية ليس مستغربًا. وانتقد تدهور الأوضاع الاقتصادية “عاماً بعد عام”، ثم خاطب المسؤولين في إدارة رئيسي قائلًا: “لماذا يكذبون بدلًا من تقديم الإجابات؟ لماذا تحول الدين إلى عصا فوق رؤوس الناس؟” ويبدو أن انتقادات عليمي الأخيرة كلفته غاليًا حيث مُنع بعدها من أداء أناشيده في عدة مناسبات.
المؤيدون يتحولون إلى منتقدين
والأهم من ذلك، أن بعض الرواديد الذين انضموا اليوم إلى نادي منتقدي الحكومة البارزين أصبحوا أثرياء بسبب علاقاتهم الوثيقة مع المؤسسة السياسية. وكشف محمود كريمي، المنشد الديني البارز الشهر الماضي أن “بعض المسؤولين” طلبوا منه عدم تلاوة خطاب شهير للخليفة والإمام الأول لدى المسلمين الشيعة، علي بن أبي طالب (600-661 م)، في إحدى مجالس العزاء. والخطاب هو رسالة من القرن السابع كان علي بن أبي طالب قد وجهها إلى مالك الأشتر، والي مصر في ذلك الوقت تحث على معاملة الشعب المصري بطريقة عادلة. فقراءة مثل هذا المقطع في المناخ السياسي الحالي، الذي ساد في إيران بعد أشهر من الاحتجاجات المناهضة للمؤسسة السياسية التي تم احتواؤها بعد حملة قمع دموية، يمكن اعتباره مستفزًا في نظر الجمهورية الإسلامية.
وبرز الحادث بشكل خاص لأن كريمي، الذي يُشاع أنه ثري وأصبح صاحب مصنع، هو داعم دائم للمعسكر المحافظ في إيران. وطوال فترة حكم روحاني المدعوم من الإصلاحيين، هاجم كريمي باستمرار الحكومة وخاصة وزير الخارجية آنذاك ظريف. وفي عام 2015، صوّب كريمي مباشرة على الرئيس المعتدل عندما قال: “إنك تربط الاتفاقية النووية وندرة المياه في هذا البلد بالعقوبات [الغربية]. إذا لم تكن لديك القدرة [على الحكم بفعالية]، غادر”.
في الانتخابات الرئاسية لعام 2017، التي فاز فيها روحاني على رئيسي مؤمنًا فترة ولاية ثانية، أعلن كريمي دعمه لرئيسي وشكر قاليباف المحافظ على انسحابه من السباق لصالح رئيسي. وبعد أربع سنوات من ذلك، في عام 2021 تحديدًا، قارن كبير الرواديد ظريف بشخصية سيئة السمعة في التاريخ الإسلامي الشيعي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها قوضت سلطة علي بن أبي طالب.
لم يكن كريمي وحده من بدأ ينتقد إدارة رئيسي المحافظة. ففي مجلس عزاء الشهر الماضي، انتقد رضا ناريماني وهو رادود آخر، الحكومة بسبب سوء تعاملها المزعوم مع الاقتصاد، معربًا عن قلقه من ارتفاع التضخم والاضطراب المالي. وفي هذا السياق، قال ناريماني “ليس من الواضح إلى أي مدى من المفترض أن يستمر هذا الوضع حقًا” وأضاف: “أيا كان ما نريد شراءه، فإننا نرى سعره يرتفع وينخفض كل يوم”.
وجاء النقد الأكثر تأثيرًا من حسين أنصاريان، وهو داعية ورجل دين يحظى باحترام كبير وله أتباع كثر بين المتشددين والمحافظين. وفي خطوة غير مسبوقة، قام أنصاريان بتوجيه اللوم للسلطات بصورة علانية في 12 أبريل/نيسان عندما قال: “لا تخيفوا المذنبين. فإذا تم اعتقال مذنب عن طريق الخطأ، لا تكذب وتقول له إنه سيُشنق في صباح اليوم التالي… لا تزرع الرعب في قلبه وقلوب أسرته”. تحمل هذه الانتقادات وزنًا كبيرًا بين الشرائح الدينية في المجتمع، وهي تشير إلى تزايد الإحباط وخيبة الأمل من إدارة رئيسي والمؤسسة السياسية الأوسع. إذا استمر رد الفعل العنيف على المحافظين، قد يكون مكلفًا على الجمهورية الإسلامية لأنها تعتمد بشدة على دعم ناخبيها المتدينين من أجل بقائها.
المسار المستقبلي
لطالما حظي الرواديد الدينيون باحترام المجتمع الإيراني. ومع ذلك، فقد شُوهت سمعة الرواديد المعتَمدين من قبل الدولة في السنوات الأخيرة، بما في ذلك في أعين بعض فئات الطبقات الدينية. ويرجع ذلك أساسًا إلى علاقاتهم الوثيقة مع المؤسسة السياسية.
بالنظر إلى الغضب والاستياء السائد على نطاق واسع من سياسات حكومة رئيسي والظروف الاقتصادية لإيران، ربما يحاول الرواديد المعتمدون من الدولة الآن أن يناوأ بأنفسهم عن النظام السياسي وتصوير أنفسهم كشخصيات مستقلة وليس مجرد أبواق تابعة للجمهورية الإسلامية. يمكن أن يكون لتداعيات مثل هذه المناورة تأثير كبير على قدرة الدولة على حشد الدعم من الطبقات الاجتماعية الدينية.
يجب أيضًا أن يؤخذ في الحسبان أنه، حتى لو انهارت الجمهورية الإسلامية أو أطيح بها، لن يفقد الرواديد بالضرورة نفوذهم بالكامل. على الرغم من أن تأثيرهم قد يتضاءل على الأرجح، فإن تأثيرهم على الشرائح الدينية في المجتمع سيجعلهم مصدر قوة حتى لدولة علمانية. يمكن أن يكون الرواديد فعالين في حشد الدعم للسلطات العلمانية أثناء مواجهة النقاد المتدينين. والجدير بالذكر أن نظام الشاه كان قد استخدم تكتيكًا مماثلًا إذ تودد لخطباء دينيين ورجال دين مما دفعهم للتحدث لصالح النظام الملكي في مجالس العزاء الشيعية. في جميع الاحتمالات، وبغض النظر عن اتجاه المستقبل السياسي لإيران، فإن تأثير الرواديد سيبقى قائمًا.