صلاة يسوع وصلوات المسيحيين!

بشارة الراعي

كلّما قرأتُ الإنجيل فوجئت بالاختلاف وأحيانًا بالتناقض، بين ما يقوله يسوع أو يفعله، وبين ما يقوله مسيحيون أو يفعلونه، مما يذكّرني دائمًا بجبران في أحد نصوصه، عندما يروي أن الكهنة لم يكونوا يسمحون لعامة الشعب بالاطّلاع على الإنجيل.

أحببتُ التأمّل في موضوع “الصلاة” في الإنجيل، في وقتٍ إضطر فيه المسيحيون بسبب كورونا، للصلاة في بيوتهم بدل الصلاة في الكنائس. اِكتشفتُ أن المسيحيين في معظمهم يصلّون كما علّمتهم السلطة الدينية، وليس كما علّمهم يسوع، وأن الصلاة بحسب يسوع تتناسب أكثر، وللمفارقة، مع ظروف الحجر المنزلي.

يصلّي المسيحيون أحيانًا في بيوتهم وعندما يكونون وحدهم، لكن الصلاة الرسمية هي جماعية وخلال القدّاس، في حين أن يسوع قال “أما أنت إذا صلّيت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء”.

يكثرون من الكلام في الصلوات، أكان في القدّاس أم حين يصلّون المسبحة، فيما يسوع قال “لا تكثروا الكلام لأن أباكم يعلم بما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه”.

في “الصلاة الربّانية” يريد يسوع أيضًا من المصلّين أن يطلبوا من الله “ألّا يدخلهم في التجارب وأن ينجّيهم من الشرير” أي ألّا يفترضوا كما يعتقدون

إن للصلاة الجماعية مزاياها العاطفية على مستوى الشعور بالتضامن والانتماء، خاصة إذا كانت الجماعة المسيحية تمرّ بأوقات صعبة من حروب واضطهاد وما شابه. لكن في الأوقات العادية يمكن السلطة الدينية أن تستخدم الصلاة الجماعية لتأطير المؤمنين وممارسة سلطتها عليهم، عبر ترسيخ تقاليد وعادات ومعتقدات جماعية قد لا تتناسب مع تعاليم يسوع، مما يحرم المؤمن من حرّية التفكير والتأمّل في دينه، بعيدًا من تأثير تشابك المصالح السياسية والاقتصادية والدينية التي قد يجسّدها رجال الدين.

الصلاة الجماعية عند المسيحيين هي في أغلب الأحيان مزيج من العبادة والعرفان والطلب من الله المساعدة والغفران. الصلاة عند يسوع، وخاصة فعل العبادة من خلال تقديم القرابين، كما في زمانه، مشروطة بالمصالحة مع الآخر. يقول: “فإن قدّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكّرت أن لأخيك شيئًا عليك فاترك هناك قربانك واذهب أولًا واصطلح مع أخيك”، أي أن يسوع يطالبك بأن تذهب إلى الله وتزور معبده بعد أن تكون قد أحببت، وليس بعد أن تكون قد أخطأت في حق البشر. وهذا ما يغيّر كلّيًا من وظيفة “الاعتراف” عند الكاهن خلال القدّاس. فبدل أن تخبره عن خطاياك، تخبره عن مزاياك. وبدل أن تركع أمامه ذليلًا حاملًا ذنبك، تتشارك معه بثقة في النفس، أفعال المحبّة، مما يجعل الله يتقبّل قرابينك.

علّم يسوع تلاميذه كيف يصلّون، وهي الصلاة التي تُعرف بالصلاة الربّانية، “أبانا الذي في السماوات”. في هذه الصلاة القصيرة، يدعوهم يسوع لأن يطلبوا من الله أن تكون مشيئته “كما في السماء كذلك على الأرض”، أي أن يعمّ الخير على الأرض قبل التعويل على الحياة في الآخرة. كذلك يدعوهم للطلب من الله أن يغفر لهم ذنوبهم “كما يغفرون هم لمن أساء إليهم”، أي أنه لن يغفر هو إذا لم يغفروا هم، وأن يطلبوا منه أيضًا أن يعطيهم خبزهم “كفاف يومهم” وليس أكثر من حاجتهم، وهذا يتعارض مع الطلب من الله تكديس الثروات.

إقرأ ايضاً: «علي الله» يضرب «الرقم القياسي» في كفالات تخلية السبيل في ملف الصرافين!

اِنزلقت البروتستانتية أكثر من الكاثوليكية أو الأرثوذكسية، في اتّجاه الدعوة إلى المزيد من العمل والإنتاج كنوعٍ من تمجيد الخلق والخالق، مما جعل بعض المفكّرين الكبار من مثل ماكس فيبر، يضيئون على العلاقة الوثيقة بين البروتستانتية من جهة، وبين تراكم الرأسمال وانتشار الرأسمالية من جهة أخرى.

لا أعتقد بأن يسوع، كان ليكون ضد العمل والإنتاج والنمو، لكنه لم يكن ليقبل بأن يكون ذلك بهدف تكديس الثروات وتوزيعها بشكل غير عادل على البشر كما تفعل الرأسمالية. بل كان ليفترض أن يكون هذا النمو بهدف إشباع الاحتياجات البشرية التي لا يمكن أن تكون إلّا متساوية ولو اختلفت بعض الشيء في حجمها ونوعها.

لا أعتقد بأن يسوع كان ليكون ضد العمل والإنتاج والنمو لكنه لم يكن ليقبل بأن يكون ذلك بهدف تكديس الثروات وتوزيعها بشكل غير عادل على البشر كما تفعل الرأسمالية

في “الصلاة الربّانية”، يريد يسوع أيضًا من المصلّين أن يطلبوا من الله “ألّا يدخلهم في التجارب وأن ينجّيهم من الشرير”، أي ألّا يفترضوا كما يعتقدون، أن الله يحبّ أن يجرّبهم ويختبر إيمانهم من خلال التلاعب بحياتهم بسادية مطلقة، بل على العكس عليهم أن يطالبوه بألّا يجرّبهم وبأن يواجه معهم الشرير.

ربما كانت فرصة للمسيحيين اللبنانيين في ظروف الحجر المنزلي، أن يقرأوا الإنجيل بأنفسهم ويصلّوا في بيتهم كما يفضّل يسوع، طالبين من الله أن يبسط مشيئته “كما في السماء كذلك في لبنان” بدل أن يقبلوا العيش في جهنم التي كان يرأسها ممثّل للمسيحيين في السلطة، وأن يعطي الله اللبنانيين “خبزهم كفاف يومهم” بدل أن يجري احتكار خبزهم ورفع أسعاره وتهريبه فيما هم يعيشون الفقر والعوز، وأن “ينجّيهم من الشرير”، أكان مسيحيًا أم مسلمًا، عربيًا أم إيرانيًا، إسرائيليًا أم أميركيًا.

المحبّة بين البشر وليس الصلاة هي التي تجعل مشيئة الله تتحقّق “كما في السماء كذلك على الأرض”

يبقى أن الصلاة ليست هي الأهمّ عند يسوع، لا بل أجازف ربما بالقول إنها تبدو لي غير مهمّة بالنسبة إليه، وخاصة بالمقارنة مع المحبّة التي هي جوهر المسيحية. فعندما كان يُطلب منه تحديد شروط الدخول إلى ملكوت السماوات، لم يكن يذكر الصلاة، بل محبّة الآخرين، من خلال إطعام الجياع ومساعدة المرضى وزيارة المساجين.

المحبّة بين البشر وليس الصلاة، هي التي تجعل مشيئة الله تتحقّق “كما في السماء كذلك على الأرض”، والمحبّة بين البشر وليس الصلاة، هي التي تجعل الخبز يتأمّن للجميع، والمحبّة بين البشر وليس الصلاة، هي وحدها قادرة على مواجهة الشرير.

السابق
«علي الله» يضرب «الرقم القياسي» في كفالات تخلية السبيل في ملف الصرافين!
التالي
آذار يرفع «حركة» المطار!