حملت طائفية النظام السياسي إلى الدولة اللبنانية آفة العصبية، فانتشرت عدواها بين صفوف اللبنانيين، الذين باتوا يبحثون عن هوية “قوية” بعد سنوات طويلة من حرب أهلية، أنهكت بلدهم وقوّضت مؤسساته، قبل أن توهن هويتهم و انتماءهم الوطنيَّين. ووجد هؤلاء في طوائفهم منقذاً لهم، بعد أن مدّت كلّ منها جماعتها بالخدمات الضرورية، عبر مؤسساتها التربوية والصحية والاجتماعية… والتي من المفترض أن تقدّمها مؤسسات الدولة.
وكانت النتيجة أن استبدّت كلّ طائفة بجماعتها، فاستخدمتها لأهداف سياسية تخدم مصالحها، بعد أن غرست في رؤوس أفرادها الخطاب العصبي والتطرّف.
استباح النظام اللبناني بطائفيته الديمقراطية، من خلال حرمان مواطنه أبسط حقوقه المشروعة من خلال انتهاكها، أي الطائفية، لمبدأ العدالة الاجتماعية و تكافؤ الفرص وإلزامية التعليم ومجانيته و شمولية الضمان… وتجدر الإشارة إلى أن استبداد السلطة، لا ينحصر فقط في قمع الحريات العامة و انتهاكها، كما هو متعارف عليه، بل يتخطّاه إلى الحرمان من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، التي تقوّي اندماج المواطن في دولته وتعزّز مواطنيّته من ثم.
استبداد السلطة، لا ينحصر فقط في قمع الحريات العامة و انتهاكها، كما هو متعارف عليه، بل يتخطّاه إلى الحرمان من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والتربوية
يتجلّى، في هذه الحال، الواقع الأكثر خطورة في سلخ المواطن عن حريته، من خلال تعمّد حرمانه من حقوقه، وذلك من أجل أسره في سجن طائفته، التي تعمل بدورها على استغبائه باسم شعارات “مجيدة” وهمية ومن ثم استعباده. لذلك نراه يقف في وجه تقدّم مجتمعه، بعد أن تم اقناعه بأن طائفته بديل عن وطنه وأقوى منه، و انتماءه لها هو خلاصه. وهذا ما أشار إليه العلامة السيد محمد حسن الأمين عندما قال إن “أي مجتمع أفراده غير أحرار، لا يمكن أن يكون مبدعاً و متقدّماً” (مآلي الأمين، محمد علي العاملي، دار الروافد ٢٠١٨). بمعنى آخر، لقد نادى العلامة الأمين بالتحرّر و رأى فيه إنقاذاً للمجتمع من مآزقه وخلاصاً له. ولا يخفى من أن التحرّر من الطائفية هو أساس أشكال التحرّر كافة، الفكري والعقائدي والسياسي….
لقد غذّت طائفية النظام السياسي في لبنان، ظاهرة بالغة الخطورة، وتتمثّل في التأليه الذي تبدّى في تأليه الزعيم الطائفي أو شعار أو سلاح أو قضية…..وباتت الدولة ديمقراطية في الظاهر و استبدادية في الخفاء. وما هي إلا عبارة عن مجموعة “بؤر” طائفية حدّدتها حيثيات جيو-سياسية.
لقد أضحت القدسية في الحياة أداة فاعلة لعمليات استلاب مجتمع متآكل بفعل التخلّف. و هنا، نستذكر ما قاله العلامة الأمين بأنه”لا يوجد في السياسة مقدّس” و “التقديس هو شأن إلهيّ”. لقد وضع التقديس في مكانه الصحيح بحيث أناطه بالشأن الإلهي، بينما اعتبر ممارسته في السياسة أساساً للخطاب العصبي، الذي يجذّر الفتنة بين صفوف المواطنين، مهدّداً السلم الأهلي والانتماء الوطني. لذلك رأى العلامة الأمين في مقاومة الفتنة التي تدفع المواطن، إلى تأليه زعيمه وتأثيم الآخر، و من ثم نبذها إنقاذاً للحياة السياسية منها، و بإنقاذ الحياة السياسية في لبنان من خلال “مقاومة” الفتنة ونبذها. و يأتي هذا الإنقاذ أولاً من خلال “معالجة الاصطفاف الطائفي”.
محمد حسن الأمين… رحيل علّامة متنوّر شجاع
و إذا ما قرأنا أكثرما بين سطور ما كتبه العلامة الأمين، لوجدنا أنه جعل من “إعادة إحياء العقل والبحث الحرّ دون مصادرة”، نقطة انطلاق التغيير المنشود نحو التقدّم و التحرّر من العصبية. وناشد بضرورة البحث التجديدي الذي “يسهم في انتاج إسلام العقل الذي من دونه سنبقى على هامش التاريخ”.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن العلامة الأمين أعطى للحرية عموماً، وسيّما حرية العقل، دور المدخل العريض لبلوغ الحداثة والإنطلاقة نحو مجتمع متقدّم و راقٍ.
جسّد فكر العلامة الأمين “الديمقراطي و المعتدل”، مادة ضرورية لبناء نظام ديمقراطي كونه لم ينبذ فقط العصبية، وتأليه الزعيم و يعارض فكرة الدولة الدينية فحسب، بل يدعو إلى العمل على إرساء هذا النبذ عملانياً على الأرض. لقد نادى بنظام ديمقراطي مدني و رأى أنه “لا يمكن لنظام ديني أن يحقّق إرادة الشعب الذي يمثّله” و أن “الدين شأن إلهيّ والسلطة شأن بشري”.
تحثّنا قراءة العلامة السيد محمد حسن الأمين على التفكير مليّاً في واقعنا، إنطلاقاً من منظور القيم المدنية التي تعدّ “محور” الدولة القوية. كما تفرض هذه القراءة نفسها، ليس فقط من منظور دينيّ، بل أيضاً انسانيّ يسوده المنطق والاعتدال.
العلامة الأمين أعطى للحرية عموماً، وسيّما حرية العقل، دور المدخل العريض لبلوغ الحداثة والإنطلاقة نحو مجتمع متقدّم و راقٍ
لم تنحصر فلسفة العلامة الأمين في قضايا دينية و سياسية فحسب، و إذا ما قاربناها أكثر، لوجدنا أنها تنسحب على الحياة النفسية. بمعنى آخر، يؤدّي العمل على نبذ العصبية، التي تخلق أفكاراً “عظامية” قائمة على “تعظيم الذات”، و احتقار الآخر المختلف، نتيحة عملية استلاب، إلى تجنيب من يمتلك الاستعداد للاضطرابات النفسية، الوقوع فريسة لها.
خلاصة القول، يجسّد ما نادى به العلامة السيد محمد حسن الأمين، “منارة” ترشد إلى بناء دولة قوية بديمقراطيتها و مدنيّتها.