اصدر شاعر الحداثةالكبير شوقي أبي شقرا عن “دار نلسن” و”مؤسسة أنور سلمان الثقافية” كتاب “حبر ترجمات كالخمر يعتق” يتضمن مختارات من شعر رامبو ولوتريامون وريفردي، ويبرز هذا الاصدار كنجمة ظهرت في سماء الحداثة الشعرية التي أطلقتها “مجلة شعر” في ستينات القرن الفائت،وكان أبي شقرا أحد روّادها الى جانب رواد الحداثة كالشاعر يوسف الخال ومحمد الماغوط وادونيس وانسي الحاج وسواهم.
أرفق أبي شقرا مقدمة لافتة حول ترجمة الشعر والترجمة في مجلة “شعر”،فيما يلي نصّها:
“إنّ الفضاء يلائم الزرافة
ها نحن في مهبّ الصعود إلى عنق الزرافة، على إيقاع من لدى العيون، من لدى الخشوع والانكباب على المعنى وعلى الحنين حتى الدوار. حتى التعب الملآن من داخل الأنوار من داخل الجسد. ومعنا من الصداقات الصديقة المنجيرة. فهي جواب ليذهب الأفول بعيداً ويفعل كأنه الشمس في البدء ثم هو ما يغيب في بضع من الآلات، من النظرات إلى الحياة إلى جنينة التفاؤل، أو التي تدعى أنها السرّ أو أنّها المدى أو رغيف الصاج. أو حيث النار تعزف للجوع أن يأتي وأن يفتح الفم، أو يفتح الدفتر. وهكذا نحلم ثم لا ننسى أننا هكذا بين نار وغمامة. بين وجود وعدمه. وبين أسنان مغامرة ولعبة. ولا يأس. نحن في الرحابة وفي دفء الوجود ولا جمرة كما هي العادة، بل لأن الخمرة هي الحب. ولا خاتمة في المدى، في أي غابة.
نزور الصبا واللغة طلقة
ليست جارية بل أميرة
ها نحن يغمرنا الزبد. وها نحن والشاعر والماء. وها نحن لا نغرق وحيث لا ملح لنطرد ابليس أو غيره من الأسماك الملونة. وها هي المائدة، وها هي الكأس من خمرنا جاءت ونامت عندنا منذ البارحة. منذ هي شاءت أن نرجع إلى الطاولة، مرة نكتب عليها اسمينا. أو نحفر نكتبه. ومرة لا نفعل أي فعل أي سلالة، أي فصيلة أي حصان، حتى أي زرقطة تدور وتدور وتعزف وتعزف. وطموحها أن تحصل على جرس لأنهض أنا ولا أستغرق لأنني سمكة عابرة في النوم وفي اللذائذ من الرؤى ومن غمزات الأحلام.
وقبل الوجود وقبل أي شيء وقبل أي لغة وبعد أن يكون هو ثم هي. وقبل المحطة والختام وصعود الهوى والمغامرة إلى السرير. وقبل منجيرة السرير وأن ينام هو وأن يرقد الغبار وأن لا موجة على أي إنسان وقبل الرقاد. وهكذا نروح إلى ابتسامة والى تذكار هو تلك المغامرة لا تغفو على أي زند. وعلى أي حب سوى القصيدة المختلفة الجذور والتي عندها القياس الصحيح في المغامرة ومطلب العلى.
ولا بدّ من السفر صوب الجدّة في النصّ، حيث هو ممتلئ الجوانب، وحيث هو الحديقة والريعان الذي يشعّ. والذي يروح مرتاحاً صوب الأمل، صوب القلم، صوب المغامرة لتكون أحلى من الأحلى في الوجود العادي. وفي موجة الارتفاع. وفي بهاء القامة تنزل مرتاحة الصبا، مرتاحة الجوانب في أي رحلة وترحال وأي مكان. وهناك السحابة الغزيرة. وبها دائماً نحن هنا على حسكة على دفء من الشمس وعلى الرومنطيقي ذاك المغامر والكريم في أي مرحلة. ونقول ونرحب به ويدعى القمر، وندعو. يا ويا ويا.
وهو ذلك اللذيذ والضوء الألذّ، وكذلك هو يقول ويتناثر الغبار. هو الدائم الحضور بجلباب الصمت. وهو الرباط، هو يزحط على جسد الهندباء، وعلى سرساب البقدونس. وعلى مدخل القصر قصر الخطيئة التي تنفر من القصاص ومن السكين، كي لا نذبح أي ليمونة أي يقطينة وأي اصبع ترتفع عن الثرى لتدلّ على الحياة. وكيف يسكر الوحي ويأبى الملاك أن ينوب أحدهم من المارة. من تلك الشعاب ذات الاسوار، عن السحابة المتمادية الخصب. وعن أن الحلم وأن الأحلام كل ذلك يلبث في القصر الذاتي والمحكم والدقيق في أي سباق نحو الحرية وفي خضمّ الثورة على الجماد ورماد الوجود وعلى أي عائق أمام الجمال.
والرجاء منه من صاحبنا أن يترك الأناقة وما هي الشرارة الدافئة وما هي أي عقبة، وأن يسبق جميع القوم إلى بثّ الرسائل وأن يرسل عساكره وأحبابه لإصلاح أي غلطة أي احتمال من هذا النوع وهذا القبيل. وهي النجاح ولا غلطة في أي فضاء. وأي ورق وأي ميدان في أنحاء الكون. ولعلّه، إذ نراه، يبدو نظيف العباءة ليغمر بها كل الأيام وكل هنيهة ونحن لنا الحصّة الأوسع من أي بيداء وأي ناقة ترتمي صعداً على الرمال وأي وجود وأي حكاية. ولا أحد سيغار ولكن سيكون في اليقظة وفي لهفة الانتظار.
بعض النثر يختال على بعض الضوء
تلك الأيام في بيروت وفي مجلة “شعر” هي ما نحاول أن نكون معها هناك. في تلك المجرة أو المحراب أو الصدفة القوية. أو نحن والمجلة وتلك الخمر تنبع من النفوس المشتاقة إلى الحياة الجديدة، إلى حالة أخرى كأنها العلامة. كأنها في الأعماق، وفي القلوب والأجواء والألحان. وكنا نحن على المسافة، ضيقة أو رحبة. وعلى الحلم الصغير في البدء والأوسع جداً مسافة تلو أخرى. ولم نهدأ منذ تلك الحقبة، وهي ريانة وهي جديدة وهي مقدامة وهي على أهبة السفر وعلى رأس القوم، رأس القافلة، إلى البعيد، إلى أن نحرز حتى الصدى. ونحرز ما يبدو لن أنه الفوز. وأنه القشعريرة. وأنه ينبع من الينبوع الخاص. وهو لنا إشارة تلو إشارة، وبناء على الموجود على هذه الأرض الغناء، وكأنه من أملاكنا ومن الكنز الذي صار إلى الوجود، إلى أن يكون الحقيقة. وأن يكون الوهج. وبه نحن الشمعدان من الظلام نسير والى الوجود الحيّ والى أن نبدو كأننا القصيدة الناعمة والخشنة. وأمام الإبداع الذي كأنه يختبئ في طيات الجسد، وفي الجوانب المحيطة بنا أسواراً تلو أسوار. ولا بدّ من النار، من جرثومة تبثّ الوحدة من كومة من جرّاء القش والعيدان اليابسة. ومن جراء الأشواك العنيدة حيث يسكن الحظ المفخوت الكيس. ويبدو لنا تارة هو حق وتارة هو على غير ذلك. ولا بدّ من الميزان ومن الرعشة التي تختبئ في الجسد في أجسادنا في عقولنا وفي حيث المدى وهو لنا. نحن الرعاة ونحن العصا لنقود الشعر ونرسل النثر إلى العالم حوالينا. وفي أي مكان. وفي سواء السبيل. وفي أن في المساحة التي كأنها بتول وأنها الصبيّة وأنها المغامرة وأنها الغاية حيث الأمثولة هي الثمر وحيث التجديد والقبض على النادر على الجوهر وهو يختبئ في آونة الطيش ولعبة الغميضة والقش. وحيث اليابس الذي يتحول من نقطة إلى نقطة، إلى حميّا الحسن والى الأحسن ذي الحرارة. كما يقول الميزان.
وعلى هذا الضوء على نضوة الحصان ونضوة الأيام وليست الثكلى. بل تلك علامة أننا في مرحلة الصبا. وغمزات الشباب ورحلات هؤلاء الموهوبين. والغاية غايتان، أولى هي الترجمة التي تنقلب مع الشاطر مع كل موهبة إلى كأس خمر، إلى الراح ولا بدّ منها، لتكون أسوع من الصحن. وأوسع من جرّة الارتواء، ومن أننا لسنا عطاشى. بل نحن في بحر الترجمة من تراث إلى غيرة إلى مثالية والى اجتهاد لا ينطفئ وفي حيّز المرتبة أنا المشتاق وفي خضمّ الرحلة إلى الترجمة، إلى تلك الأعمال من قلمي أنا ومن حرصي على ما فعلت هناك في مجلة “شعر”.
وأدلّ من يشاء على كيف هي الترجمة المجتهدة، كيف من الشاعر الفرنسي رامبو، نقلت إلى الفصحى قصائد له في عام 1959، في مجلة “شعر”.
وهكذا في الآونة المضطربة حيث نحن نموج موجات بيضاء وزرقاء، لي جهدي واجتهادي وأنا بعد طرَّ الشاربين، طرَّ القريحة.
وأيضاً لي ترجمة من الشاعر ريفردي، ولي نصوص شارحة. وأكاد أقول أن ترجمتي في تلك المرحلة من الصبا ومن الحماسة ونشوة العنفوان، كانت باهظة الكيان. وحيث الرضى، وحيث الطمأنينة إلى أن ما فعلت نخوة واجتهاد. ويبدو لي وأنا في ذياك الوهج وعلى رسلي وعلى مسافتي البعيدة ذلك المغوار والذي منح النصّ زهوه وشعلة موسيقاه وحماسة الرضى على العمل، ولا فجوة، بين سطر وسطر بين معنى ومعنى. وحيث اللغة كأنها صاحبة الكيان، صاحبة الأدب ولي هكذا أدب من صنعي، ومن بصمتي وتوقيعي ووعيي لكل ما جرى وكان ما أطيبه وما أحيلى ما تمّ وما صار إلى مرتبة الرقي وخاتم الموهبة.
لنا منجيرة الصعود والكتابة
وها نحن، في الزمان المتراكم، نكاد نؤوب إلى لعبة الصدى، إلى لعبة المجد. والى أننا طالما كنّا كما علينا أن نكون في مشقة العمل وفي بثّ الجهد، للوصول إلى الطمأنينة. والى الميزان الذي يميل من تلقائه إلى المكافأة. والى أننا نحن آنذاك ثمرة في الماضي البعيد والى ذلك البعد والى مداعبة المغامرة نضيف أنفسنا. ونرانا ونقول عن حالنا أنها كانت أجمل حال. وكنّا ولا نزال ننفعل حيث الأمر الجيد وحيث الأمر الجديد وحيث الاجتهاد في النصوص. وفي أننا، ولو هو العمر ما زال باكراً وعلى مقربة من الشمس وأيضاً من ضوء القمر. ورحنا في الموازاة إلى النصوص الآتية من هناك، والتي نحن كنا لها أمام الأمر الجيد أمام الرضى عن الذات. وكنا ولا فلسفة ولا أي فجار وأي مديح وأي هوى. وهنا نحن ننزل من الكوخ إلى متعة جديدة، إلى حيث النار، نار الشباب ونار الصبا. وها نحن مرة ثانية وثالثة أمام الدهشة من كوننا القطار الذي يحمل ما حمل من الثمار ومن التكاوين في مدار الوجود حتى الوصول إلى الجنة، إلى قصيدة القطار الذي يصيح علينا لنصعد لنكون أيانا. أي نحمل الوجود إياه. ونحمل الشطارة وتلك الطبيعة اللينة الجسد والتي بها نحن نبقى الحارس، والذي نجعله هو صاحب العيد، والذي، في تلك المناسبات هو صاحب المتعة وهو سيّد القيمة العالية الأغصان وطيبة المستقبل، والمنذورة لأن تكون هكذا. أي فوق الأشياء المعتادة والعادية. وهكذا صرنا إلى الاحتفال إلى حفلة التتويج، إلى تاج المعرفة. والى تاج القصيدة وكأنها الأميرة والجديدة طوال الصلاة وطوال البحبوحة.”