
في مقالة سابقة لي الأسبوع الماضي في موقع “جنوبية” ، كان السؤال عن سر توتر الثنائي الشيعي، الذي تُرجم بالإعلان عن دعم ترشيح سليمان فرنجية بدايةً، من قِبَل رئيس مجلس النوَّاب نبيه بري، ومن ثم الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وطرحنا أربعة إحتمالات قد تكون وراء هذا الإعلان، إحداها وهي الخطة(ب)، التي قد يكون هدفها الحوار حول مرشح تسوية ما، بين فرنجية وقائد الجيش جوزاف عون، في حال لم تكن الظروف الإقليمية والدولية مواتية لإنتخاب فرنجية، وبذلك يكون الثنائي قد قام ب”واجبه” إتجاه سليمان فرنجية، بحيث أعلن دعمه لترشيحه، وفي نفس الوقت “غَسَلَ” يديه من هذا الموضوع، على إعتبار أن الظروف الإقليمية والدولية، كانت أكبر من أن يواجهها في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها لبنان.
بعد يوم من نشر المقالة، أُعلن عن الإتفاق السعودي – الإيراني بوساطة ورعاية صينية، بحيث وإن كان ليس مفاجئاً على صعيد المفاوضات بين الجانبين، على إعتبار أنها بدأت منذ العام 2021، إلا أن المفاجأة كانت في التوقيت، وكذلك في الوسيط والراعي لهذا الإتفاق، وهو هنا الصين الشعبية، التي يبدو أنها سجلت هدفا دبلوماسيا تكتيكيا في مرمى الولايات المتحدة الأميركية، في ظل الصراع الدائر بينهما، وإن كان هذا الهدف لا يقلب المعادلات في المنطقة والعالم، كما يحلو لبعض محللي الممانعة الترويج على عادتهم بتجميع “الإنتصارات”، على إعتبار أن هذا الإتفاق هو هزيمة للولايات المتحدة، لأنه لا يمكن لعاقل أن يُصَدِّق بأن أميركا، لم تكن على علم بهذه التطورات أو أنها غير راضية عنها، والدليل أنها سمحت في يوم إعلان الإتفاق للعراق، بدفع 500 مليون دولار لإيران من مستحقاتها عليه، وهذا ما يوحي بأن أميركا لم تكن فقط على علم بالإتفاق، بل وكانت راضية عنه كل الرضى، خاصة وأنه قد يجلب الإستقرار والأمن ولو موقتاً إلى المنطقة، الأمر الذي قد يريح أميركا في ظل تركيزها وأوروبا، على تصاعد الحرب الروسية على أوكرانيا، خاصة مع بدء الحديث عن قرب إنطلاق معارك الربيع، مع وصول كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد للجانب الأوكراني، ومع التقدم الذي أحرزته روسيا عبر قوات فاغنر في منطقة باخموت.
لا شك أبداً بأن هذا الإتفاق، الذي إن خلُصت النوايا ووصل إلى خواتيمه، سيكون له وقع الزلزال على صعيد العلاقات بين دول المنطقة، كما وصفه وليد جنبلاط، وإرتدادات ستنعكس على كل القضايا المعلَّقة فيها، وإن كانت الأمور ستسير بالتدريج، ولن تكون النتائج فورية كما يتمنى أو يتوقع البعض، نظراً لطبيعة العلاقة المعقدة بين الجانبين أولاً، وثانياً لطبيعة التفكير الإستراتيجي للطرفين، البعيد كل البُعد عن الإرتجال والعشوائية، كما أثبتت الأحداث، وهذا الأمر يُحسب لكليهما بلا شك، ما سيترك أثره على الأرض سواء في اليمن والعراق بدايةً، اللذين يحدّان السعودية من الجنوب والشمال، أو في سوريا ولبنان، كبلدين يمثلان ساحات صراع وضغط متبادل، وخط دعم ودفاع ثان لكلا الطرفين.
هل كان الثنائي الشيعي يعلم شيئاً عن توقيت إعلان الإتفاق، لذلك إستبَقه بالإعلان عن دعمه سليمان فرنحية للرئاسة أم أن الأمر كان مجرد صدفة؟
من هنا يبرز السؤال، هل كان الثنائي الشيعي يعلم شيئاً عن توقيت إعلان الإتفاق، لذلك إستبَقه بالإعلان عن دعمه سليمان فرنحية للرئاسة أم أن الأمر كان مجرد صدفة، وهل كان الإعلان مجرد محاولة ل “تبرئة الذمة” أمام فرنجية، لأن ما بعد الإتفاق الإقليمي لن يكون كما قبله، أم أنه محاولة لإستثمار الإتفاق عبر طرح إسم فرنجية كمرشح أمر واقع وجدِّي، أو في أسوأ الحالات كمحاولة لإبعاد قائد الجيش الذي علَت أسهمه مؤخراً – أقله على المستوى الخارجي – عبر الإتيان بمرشح تسوية كما سبق وذكرنا في المقالة السابقة؟ وإذا كان الخلاف السعودي – الإيراني إضافة للإتفاق النووي عام 2015 قد فرضا ميشال عون رئيساً للبنان مدعوماً من محور الممانعة عام 2016، فهل يكون الإتفاق اليوم السبب في إزاحة سليمان فرنجية من الصورة، خاصة وأن حظوظه الداخلية والإقليمية والخارجية ليست مضمونة أقله حتى الآن؟
أسئلة كثيرة قد يكون من المبكِّر الرد عليها الآن والإتفاق الإقليمي لا يزال في بداياته، وأمامه فترة شهرين قبل أن ينطلق فعلياً، وإن كانت المؤشرات الأولية إيجابية، ولكن هذا لا ينفي بأن هناك أطراف عدة متضررة منه، وقد تسعى أقله للتشويش عليه ومحاولة منع وضعه موضع التنفيذ، وأول هذه الأطراف الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل، التي ترى فيه ضربة للتطبيع العربي – السعودي خاصة – معها، وقد يتلاقى معها بعض المتطرفين في الجانبين العربي والإيراني، الذين قد تتقاطع مصالحهم مع مصالحها لمحاولة وضع العصي في دواليب هذا الإتفاق، الذي نكرِّر بأنه سيكون تاريخياً، إذا ما خلُصت النوايا – الإيرانية منها خاصة – وكانت نوايا خالصة لوجه المصالح المشتركة، وليست مجرد خطوة تكتيكية لمحاولة كسب الوقت لإلتقاط الأنفاس، في ظل الوضع الإيراني الداخلي غير المريح والوضع الإقتصادي المتأزم، وكذلك الإنسداد السياسي والإستراتيجي لإيران بسبب عجزها عن الإستثمار السياسي وترجمة “إنتصاراتها” العسكرية في عواصم العرب الأربعة إلى نصر سياسي، إذ ليس من السهل بعد التجارب المتكررة، أن يقتنع المرء بسهولة بصدق نوايا إيران، لأن التغيير في السياسة الإيرانية بعد 40 عاماً من محاولات تصدير الثورة، قد يعني موت المشروع الإيراني للتمدد في المنطقة، وهو ما قد يعني في مكان ما تهديد للنظام الإسلامي الراديكالي، الذي قام أساساً على فكرة تصدير الثورة والترويج لفكر ” ولاية الفقيه “، إلا إذا كان اللهم هذا التغيير نوع من ترتيب البيت الإيراني الداخلي، تمهيداً للدخول في عصر ما بعد خامنئي، وتهيئة الأرضية لخلافته، وهو الذي بات في سن متقدمة، فضلاً عن التقارير التي تتحدث منذ مدة، عن تراجع حالته الصحية، فضلاً عن إمكانية أن تكون الصين خير ضامن لهذا الإتفاق لما له من فوائد تعود عليها وعلى دورها في المنطقة، في ظل تراجع الدور الروسي المنكفئ إلى مجاله الحيوي، والغارق في الوحل الأوكراني الذي يبدو أنه سيكون طويل الأجل.
بالإنتظار وحتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، على اللبنانيين أن يتحركوا ويعملوا بإتجاه توافق لبناني – لبناني
بالإنتظار وحتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، على اللبنانيين أن يتحركوا ويعملوا بإتجاه توافق لبناني – لبناني، كما قال وزير الخارجية السعودي، لأن العالم الذي لم يكن يوماً جمعية خيرية يوزِّع الحلول مجاناً، خاصة في مثل هذه الظروف الدولية المعقدة، لم يعُد مستعداً ولا راغباً وليس لديه وقت أصلاً ل “دلع” الساسة اللبنانيين الذين كُشفت أوراقهم جميعاً، وفاحت رائحة فسادهم وفشلهم في إدارة بلدهم، التي جعلت منه بلداً منهاراً ودولة فاشلة، بعد أن كان منذ حوالي نصف قرن يشار إليه على أنه سويسرا الشرق، فكان أن حوَّلوه بجشعهم وعمالتهم وسوء إدارتهم إلى فنزويلا أو صومال الشرق، بحيث بات رجل العرب والشرق الأوسط المريض، الذي شخَّصَ “أطباء” العالم مرضه، وكتبوا له “روشتة” العلاج، الذي هو عبارة عن إصلاحات إقتصادية ومالية وإدارية ضرورية، لا يزال زعماء “العصابة الحاكمة” يماطلون في تحقيقها، أو حتى البدء بالسير بها، ربما لأنهم يعلمون علم اليقين، بأنها قد تكون مستحيلة التحقيق، من دون إصلاحات سياسية عاجلة قد تطيح بأكثرهم، إن لم يكن كلهم من السلطة.
أما التعويل على الإتفاقات والتفاهمات الإقليمية والدولية، لمحاولة حل المشاكل الداخلية اللبنانية، فما هو سوى تضييع للوقت والجهد، وتجديد إستدراج عروض العمالة للخارج، أياً كان هذا الخارج، في الوقت الذي لم يعد لدى لبنان والشعب اللبناني ترف الوقت، لمحاولة اللعب على الحبال الإقليمية ، فقد ولَّى زمن التذاكي اللبناني، وما إستدعاء رياض سلامة للتحقيق أمام القضاء الأوروبي، إلا دليل على التغيرات التي شهدها العالم ولبنان، وبأن دوام الحال من المحال، فهل هناك من يلتقط الإشارات الإقليمية والدولية المختلفة عن السابق، ويفهم معانيها قبل فوات الأوان؟ إن غداً لناظره قريب، لننتظر ونرَ.