إشكالية «العلمنة والدين والدولة» في فكر العلامة الراحل الأمين

السيد محمد حسن الامين
فتحت مداخلة قيمة للمفكر الاسلامي الراحل العلامة السيد محمد حسن الامين النقاش واسعاً حول العلمنة والدين والدولة،كانت موضوع محاضرة في أحد الاندية الثقافية في بيروت، وذلك في ظل المتغيرات التي كان يشهدها العالم مع ولادة العولمة في تسعينات القرن الفائت، وما احدثته من صراع فكري سياسي اقتصادي على مستوى العالم أجمع، في حين حاول أقطاب الصحوة الدينية في العالم العربي والاسلامي، التصدي لهذه الموجة العاتية الآتية من الغرب دون استئذان، مستحضرين أدواتهم القديم ومنطقهم المستهلك، الذي فشل بالتعبير عن نفسه في العقود السابقة. وفيما يلي نص المحاضرة:

برزت عناوين “العلمنة والدين والدولة” للتداول في الفكر الإسلامي والعربي والقومي منذ القرن الماضي أي في مرحلة ما نسميه بعصر النهضة وهي من ضمن أسئلته الكثيرة التي انقسم حولها النهضويون والسلفيون وقدموا إجاباتهم لها.. وجاء تقديمهم لهذه الإجابات متأثراً بعوامل وظروف متعددة أبرزها الظروف الناشئة عن الاستعمار الغربي لقسم كبير من بلاد العرب والمسلمين ما أدى إلى أن تتسم هذه الإجابات بتأثيرات حادة أملتها العوامل المذكورة وأبرز هذه التأثيرات إثنان:

1 – بروز اتجاه ينادي بالسلبية المطلقة تجاه كل ما يتصل بالغرب بما فيه الجوانب المعرفية والجوانب المتصلة بالاجماع السياسي وبالدولة وبالعلمنة بوجه خاص.

2 – بروز اتجاه نقيض لهذا الاتجاه يدعو إلى اعتبار الغرب نموذجاً وقدوة لا مفر من الأخذ بموجباتها والعمل وفق النهج نفسه الذي سلكه الغرب لكي تستطيع الأمة أن تحقق ما حققه الغرب من تقدم.

واضح مدى التنافر والتناقض بين هذين الاتجاهين الذين اتسمت بينهما ردود الفعل النخبوية العربية الإسلامية تجاه العلاقة مع الغرب من جهة وتجاه المسائل والموضوعات التي تتصل بشكل أو بآخر بالفكر الغربي وخاصة منها موضوع (العلمانية).

اللعنة والتقديس

لذلك كان الموقف من العلمنة بين المشتغلين بحركة النهضة الإسلامية يتراوح بين قطبي اللعنة والتقديس الأمر الذي حرم فكرنا العربي الإسلامي من تقديم قراءة موضوعية جادة للعلمنة ولغيرها من المسائل التي كانت موضوعاً للانقسام الحاد بين رواد عصر النهضة وبين التيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية المستغلة بهذه المسائل..

وأني لأزعم أن قطبي اللعنة والتقديس ما يزالات مغروسين في عقولنا تجاه العلمنة وأخواتها من الأسئلة والمسائل الحيوية التي سبق للغرب أن أجاب عليها كمسائل الحرية والديموقراطية وحق الاختلاف والتعدد وحقوق الإنسان وغيرها.

وأني أتعمد أن أصف العلاقة بين الدين الإسلامي وبين الدولة والعلمنة بأنها علاقة اشكالية وذلك بالمقارنة مع العلاقة بين الدين المسيحي وبين العلمنة والدولة ولا حاجة بنا للعودة إلى الأحداث والملابسات والثورات التي أدت إلى فصل الدين عن الدولة في تجربة الغرب المسيحي فالكثيرون منا يعرفون الكثير عن ذلك ولكن الكثيرين يجهلون – بكل أسف – الطبقة المختلفة لكل من الدين المسيحي والدين الإسلامي من جهة وطبيعة الاجتماع السياسي المتأثرة بالدين لكل من الاجتماع المسيحي والاجتماع الإسلامي من جهة أخرى.

في الاجتماع المسيحي فإن الفصل بين الدين والدولة ساعدت عليه المسيحية بالذات حيث المسيحية لا تتضمن – أساساً – مبادئ وشرائع للاجتماع البشري على صعيد السياسة والحقوق والمعاملات فمملكة المسيح ليست في هذا العالم من جهة وهي في الأساس فصلت بين ما لله وبين ما للقيصر فجاء ادعاء الكنيسة لسلطة الحق الإلهي منافياً لمبادئ المسيحية بالذات ونافياً لحق الاجتماع البشري في إدارة شؤونه وتقرير مصيره لذلك فإن الثورة التي فصلت بين الكنيسة والدولة جاءت في جانب منها – تحريراً للمسيحية نفسها لأنها أعادتها إلى نطاقها الطبيعي، وتبلور مفهوم العلمنة بوصفه مفهوماً لعملية الفصل بين الدين والدولة.. ولا نريد أن ننسى – هنا – أن مفهوم العلمنة تأثر بعوامل الصراع المرير بين سلطة الكنيسة وبين العلمانيين فبدلاً من أن تقتصر العلمنة في الغرب على مفهوم الفصل بين الدين والدولة تورط بعض العلمانيين في نفي الدين بما هو دين فقام تيار العلمنة الملحدة إلى جانب تيار العلمنة المؤمنة التي لا تنفي الدين وإن كانت تنفي حق المؤسسة الدينية التدخل في شؤون الدولة.

كان الموقف من العلمنة بين المشتغلين بحركة النهضة الإسلامية يتراوح بين قطبي اللعنة والتقديس الأمر الذي حرم فكرنا العربي الإسلامي من تقديم قراءة موضوعية

في الإسلام وفي الاجتماع الإسلامي فإن الأمرين – من وجهة نظرنا – أكثر منه تعقيداً فالإسلام في عقيدة معتنقيه دين ودولة في آن انطلاقاً من أن الإسلام منظومة من المبادئ والأحكام الشرعية في مجال الحقوق والواجبات الشرعية والسياسية وعلى نطاق المعاملات والعقود والعقوبات وقوانين عامة وتفصيلية في مجال الحقوق الفردية والجماعة.. ثم أن نبي الإسلام نفسه محمد (ص) أقام الدولة وكان رئيساً لها وعقد التحالفات وخاض الحروب واضطلع بتنظيم المجتمع السياسي مضافاً إلى ذلك فإن تاريخ الاجتماع السياسي في الإسلام الذي شهد الكثير من ثورات الإصلاح لم يعرف حركة في تاريخه قامت على مبدأ الفصل بين الدين والدولة أو بين الدين ونظام الاجتماع السياسي والحقوقي بل كانت هذه الحركات غالباً ما تقوم على الدعوة للعودة إلى مبادئ الإسلام وشريعته في وجه السلطات التي كانت تنحرف عن إقامة العدل مستأثرة بالسلطة وبالمال العام مدعية – أحياناً – أنها تحكم الناس بموجب حق إلهي أي بموجب حق لم يمنحه الإسلام لأحد من البشر.

بسبب من هذه الاعتبارات التي ذكرناها اتسمت العلاقة بين الإسلام – أو بالأحرى بين الفكر الإسلامي وبين العلمنة بالتعقيد وقد زاد الأمر تعقيداً نشوء الحاجة في عصرنا الراهن إلى قيام الدولة الحديثة وهي دولة علمانية بطبيعتها.

وكانت محصلة التعقيد في العلاقة بين الإسلام والعلمنة أن النخب الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية في العالم الإسلامي انقسمت إلى فريقين:

1 – فريق تورط بنفي الإسلام نفياً كاملاً من دائرة الاجتماع السياسي لظنه بأن هذه هي الطريق الوحيدة لإقامة الدولة الحديثة.

2 – وفريق تورط بمعاداة الدولة الحديثة لظنه بأنها بديل عن الإسلام أو على الأقل لظنه بأنها بديل عن قيم الإسلام وشريعته في المجال السياسي والاجتماعي.

السؤال الذي نطرحه الآن: أين تلتقي العلمنة مع الإسلام وأين تفترق عنه وبالتالي هل بتنا في مشروع الدولة بمعناه الحديث مع موجبات كل من العقيدة والشريعة الإسلامية كيف ولماذا؟

في الإجابة على السؤال الأول: نجيب أن الإسلام يتنافى قطعاً مع مفهوم العلمنة الملحدة ومع موجباتها ومنطلقاتها الفكرية وذا عائد إلى كل من طبيعة الإسلام بوصفه عقيدة دينية وبين طبيعة العلمنة الملحدة التي تنفي الدين ولا نرى أن هناك مجالاً للتوفيق بينهما فالعلمانية الملحدة لا تنفي الإسلام وإنما تنفي الدين أساساً.

إذن فالعلمنة الملحدة ليست مجال بحثنا وبالأساس فإن الإلحاد ليس عنصراً مكوناً لطبيعة العلمنة الأساسية وهي فصل الدين عن الدولة ونفي الدين بالمطلق.

أما بشأن العلمنة المؤمنة القائلة بفصل الدين عن الدولة دون التورط بنفي الدين فإنها تنطوي بنظرنا على استهدافين:

أحدهما: نفي أي سلطة إلهية بإسم الحق الإلهي وتأكيدها على أن السلطة شأن بشري وأن شرعية السلطة مصدرها العالم أي البشر.

وثانيهما: أن البشر أحرار في التشريع لأنفسهم ولا يجوز إلزامهم بإسم الدين بأي شريعة تتنافى مع اختيارهم مع حقهم في أن يكونوا هم المشرعين لأنفسهم.

فإذا كانت الشريعة – بموجب الإسلام – شأن إلهي كما هو الحق فقد ظن هؤلاء وأولئك أن السلطة هي أيضاً شأن إلهي فيما الحق أن الإسلام يعتبر السلطة شأنا بشريا صرفا على البشر أن يتدبروه

في موقف الإسلاميين من العلمنة المتسم بالرفض المطلق لها ثمة خلل مرده إلى عدم التمييز – إسلامياً – بين موضوعي السلطة والشريعة. وهذا الخلل في التمييز بين موضوعي السلطة والشريعة في الإسلام قائم أيضاً في نظرة العلمانيين للإسلام.

السلطة شأن بشري

فإذا كانت الشريعة – بموجب الإسلام – شأن إلهي كما هو الحق فقد ظن هؤلاء وأولئك أن السلطة هي أيضاً شأن إلهي فيما الحق أن الإسلام يعتبر السلطة شأنا بشريا صرفا على البشر أن يتدبروه بدليل أن مصادر الإسلام وأبرزها القرآن الكريم لم يحدد صيغته للسلطة على رغم خطورة هذا المرفق في حياة الناس ؟؟؟ لهم منظومة من الواجبات والمحرمات في مجالات التعامل هي أقل شأناً بكثير من خطر السلطة وأهميتها – وفي مجال آخر خاطب الله تعالى رسول في القرآن الكريم بقوله {فذذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر} بمعنى أنك لا تستطيع أن تجبرهم على الاختيار ولكن إذا اختبازوا ما تأمرهم على إرادتهم فعليك أن تحمي هذا الاختيار. وهذا ما مارسه الرسول(ص).

إذن فالسلطة في الإسلام هي شأن بشري وليست شأناً إلهياً والإسلام في هذا الجانب علماني يحمي العلمنة ويدافع عنها.. ولكنه من جانب آخر وإذا اختار الناس لأنفسهم تطبيق الشريعة الإسلامية فإنه يحمي هذا الاختيار الذي يدعو إليه أساساً ولكنه حين يحميه لا يفعل ذلك لأنه دعا إليه.. بل لأنه يؤكد على حق الاختيار للإنسان ويدعو لحمايته.

وعليه فمن وجهة نظرنا فإن الاشكالية بين الإسلام والعلمنة في جانب كبير منها هي مشكلة مفتعلة فلا الإسلام يقول بسلطة الحق الإلهي أي بسلطة المؤسسة الدينية على المجتمع. ولا العلمانية تنفي حق المجتمع باختيار الشريعة التي يرتضيها لتنظيم إدارة شؤونه واجتماعه والفصل في خلافاته.

أما في الواقع الراهن الاجتماع السياسي الإسلامي فإنه يكاد يكون محاصراً بين نموذجين للأسلمة والعلمنة كل منهما يلغي الآخر وينفيه.. وتبقى الدائرة الواسعة للقاء الإسلام بالعلمنة شبه فارغة وبسبب ذلك سوف يظل طموحنا بقيام الدولة الحديثة دولة القانون والحرية والمساواة طموحاً مؤجلاً..

وهنا الجواب على السؤال الثاني حول ما إذا كان مشروع الدولة الحديثة يتنافى مع موجبات العقيدة والشريعة في الإسلام. لأقول أن الدولة الحديثة بمواصفاتها الشكلية هي صغيرة قائمة فعلاً في البلاد التي يعيش فيها المسلمون ولكن هذه الصيغة تبدو قاصرة وعقيمة في مجال تطوير الاجتماع السياسي للمسلمين ودفع هذا الاجتماع إلى الدرجات الضرورية من التقدم وامتلاك شروط المقاصرة وكواجهة تحدياتها.

ولعل أبرز الأسباب تكمن في أن الاجتماع والاجتماع السياسي الإسلامي محاصر بين علمنة تتسع للإسلام ولكنها تصر على نفيه وبين إسلام يتسع للعلمنة ولكنه يصر على استبعادها ولعل في هذه الحقيقة المرّة ما يسلط ضوءاً على ذلك الانشطار العدائي الحاد في المجتمعات العربية والإسلامية بين المجتمع والدولة.

الاجتماع السياسي الإسلامي محاصر بين علمنة تتسع للإسلام ولكنها تصر على نفيه وبين إسلام يتسع للعلمنة ولكنه يصر على استبعادها

أما النقطة الأخيرة في هذه القراءة السريعة لاشكاليات العلمنة ولادين والدولة فقد أردتها مثالاً معبّراً عن المفارقة المؤلمة في موقفنا وممارستنا للدين والعلمنة وقيم الدولة أعني به المثال اللبناني الذي نعيشه بل نكابده وفيه يتجلى التلفيق والترقيع. فالدولة هنا علمانية ولكنها تأخذ من الاجتماع الديني أسوأ سلبياته وهو الطائفية السياسية حيث بالطائفية السياسية تتم تصفية أنبل ما نتوخاه من العلمنة وتستمر المفارقة وتتصاعد حيث تغدو الطائفية – في اجتماعنا السياسي – بديلاً عن الدين وقيمه الجوهرية العظيمة، أي في اجتماعنا السياسي اللبناني يتعطل أعظم ما في الدين وأعظم ما في العلمنة.. فإذا نادينا بالعلمنة السياسية التي تصلح الدولة وتجعلها إطاراً عادلاً لتمثيل المواطنين بغض النظر عن أديانهم وطوائفهم قال حماة النظام الطائفي السياسي لا.. وقايضونا إلغاء الطائفية السياسية بالعلمنة الشاملة وهم في حقيقة أمرهم لا يريدون العلمنة الشاملة ولكن يريدون المشاغبة على إصلاح الدولة لأنهم يريدونها مزرعة لا دولة.

أما نحن ومن خلال المنهج الذي نقرأ فيه العلمنة فإننا نرى أن العلمنة الحقيقية في روحها وفي مقاصدها لا تتنافى مع التعدد الديني والثقافي بل تقرّه ولا تهرب من موجباته بل تحميها.. وعلى الأقل فإن بوسعنا – في لبنان – أن نأخذ من العلمنة ما لا يتنافى مع موجبات أدياننا فلماذا نُحرم من أهم خصائص العلمنة بذريعة الحرص الكاذب على الدين؟!

كأن لبنان حتى في هذا الحال يصر على أن يكون المثال المعبر والأشد تكثيفاً في هذا العالم العربي من مفارقات.

(بيروت في 18/12/1997 – محاضرة ألقيت في ندوة العمل الوطني بيروت)

السابق
انهيار اضافي لليرة.. هكذا اقفل الدولار مساءً
التالي
هذا ما جاء في مقدّمات نشرات الأخبار المسائيّة