
شكّلت مقاربات مصطفى حجازي، لواقع شعوب الدول النامية، تحوّلاً فكرياً ثورياً، فرض أهميته على مستويَين، بحيث لا يقلّ كلّ منهما خطورة عن الآخر. أسهمت مقارباته، بالنسبة إلى المستوى الأول، مقارباته في تعميق فهمنا لواقع نعيشه، و تحليلنا لما يجري حولنا من مظاهر و احداث. أما فيما يتعلّق بالمستوى الثاني، فإنها تجاوزت حدودها الزمنية، و جاءت استشرافاً لمستقبل “إنسان” الدولة النامية، الذي يعاني تحت وطأة سلطتها المستبدّة.
لذلك، يمكن القول أن مقاربات حجازي حملت بين مفاصلها تعبئة شعبية، رفضت الظلم و القهر و الاستبداد والاستعباد و التخلّف.
مقاربات حجازي حملت بين مفاصلها تعبئة شعبية رفضت الظلم و القهر و الاستبداد والاستعباد و التخلّف
لم يكن الانسان المقهور والمهدور، الذي تناوله مصطفى حجازي في مؤلّفين معنوَنين “التخلّف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الانسان المقهور” (صدر عام ١٩٧٦) و “الانسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية” (صدر عام ٢٠٠٦) سوى نموذجاً ترجم ما آلت إليه “فنون” سلطة، سخّرت كل ما استطاعت توظيفه لنشر التخلّف في صفوف مواطنيها، قبل أن تحوّلهم إلى “غرباء في بلادهم”.
لقد اعتبر حجازي أن شعور الانسان المقهور بالغربة في بلده، ما هو إلا شعوراً طبيعياً باعتباره “لا يملك شيئاً”، فحتى المرافق العامة التي وجدت لتقديم الخدمات هي ملك السلطة فقط. و كذلك التقديمات ، فإن وجدَت، توجد كمنّة من السلطة و ليس كواجب عليها.
من المعروف، و هو من المألوف كذلك، أن يعمد هذا النوع من السلطة سياسية لاخضاع شعبها، ليتسنّى لها الحفاظ على استمراريتها وتماسكها، لذلك تلجأ إلى استعباده و استغلاله بما يتناسب مع مصلحة إيديولوجيتها.
و إذا ما نظرنا إلى السلطة السياسية في الدول النامية، ومنها لبنان، لوجدنا أنها تعاني من “انحراف نرجسيّ”، وتستخدم كل الوسائل المتاحة لتأمين توكيدها لهذا الانحراف، فتلجأ إلى نشر التخلّف. وبما أن المقاربة التحليلية للانحراف النرجسي تبيّن أن “هشاشة الأنا” تشكّل نواة له، نستطيع القول أن استغلال السلطة لشعبها و استبدادها، هما أواليتان دفاعيتان، تستخدمهما من أجل التعويض عن شعورها بالخوف كنتيجة ضعفها و خللها.
إذا ما نظرنا إلى السلطة السياسية في الدول النامية ومنها لبنان لوجدنا أنها تعاني من “انحراف نرجسيّ” وتستخدم كل الوسائل المتاحة لتأمين توكيدها لهذا الانحراف
وتأتي قراءة مصطفى حجازي، الكاتب والأكاديمي وعالم النفس، لواقع يحاكي الوضع اللبناني الحالي، لتكشف لنا ماذا يعني أن تُلقي السلطة السياسية الواهنة شعبها، في مستنقع من التخلّف الاجتماعي عبر سعيها الدؤوب إلى إفقاره، قبل أن تحوّله إلى “مقهور” و “مهدور”. كما تبيّن أيضاً أنها سعت إلى “استرضاء” الدين و استجدائه، من أجل الإطباق على شعبها. وكانت النتيجة أن تمكّن الدين منها، و فرض نفسه وليّاً لها و وصيّاً عليها!
وفي هذا الصدد، رأى حجازي أن “تحالف السلطة و الدين، قد يكون أقوى آليات التحكّم، وبالتالي حصار الانسان و هدر إرادته و كيانه. المستبدّ يتحكم بسلوكيات الناس من خلال أجهزته، و آليات الترويض التي يتبعها، إضافة إلى توأمة الملك والدين… إلا أنه لا سبيل له بأن يتحكم في النفوس، وهو ما يقوم به رجال الدين أنهم يسيطرون على النفوس والافئدة… ويمارسون سلطة غير قابلة للنقاش …ناهيك عن المساءلة”.
لقد مثّلت مقاربة مصطفى حجازي نموذجاً، للكشف عن كل ما جرى و يجري من تمادٍ لسلطة، تعمّدت إقصاء شعبها عن كل ما هو عقلاني، و عزله في ركن كبير من التخلف الاجتماعي، فخلقت لديه “قصور الفكر النقدي”، ودفعت به إلى التحيّز “بشكل تلقائي، نظراً لتدخل العوامل الانفعالية والعاطفية في أوالية التفكير….يكون مع أو ضد..”.
مثّلت مقاربة مصطفى حجازي نموذجاً للكشف عن كل ما جرى و يجري من تمادٍ لسلطة تعمّدت إقصاء شعبها عن كل ما هو عقلاني وعزله في ركن كبير من التخلف الاجتماعي
هذا الحديث عن الانسان “المقهور” و”المهدور”، يفرض نفسه مع كل محاولة تأمّل في حال المواطن اللبناني، الذي تحول إلى “مغلوب على أمره”، لا حول له و لا قوة، وبات يستجدي خلاصه من زعيم، أمعن في قهره و تماهى في الوقت عينه معه، بحيث نجد دائماً حسب حجازي، أن “الانسان المقهور يستخدم أسلوب السيد المتسلّط نفسه، و يخاطبه بلغته نفسها. الكذب والخداع والتضليل، هي قوام اللغة التي يخاطب بها المتسلّط الجماهير المقهورة”.
لقد حوّلت السلطة السياسية العاجزة مجتمعها، لإضعافه، إلى عالم من الفوضى و “حلبة تناحر”، و تجلّى التخلّف الذي ألحقته به في “السرعة الواضحة في تدهور الأداء العقلي والحوار” ، فآمن بما “يتناقض مع مصلحته” من تنمية و تطوير، على حدّ تعبير مصطفى حجازي.
ولا يخفى على أحد، من أن السلطة عمدت إلى إيقاع شعبها، في بؤرة من الاضطرابات، كالاكتئاب والقلق و نوبات الهلع، و عزّزت لديه شعوراً بالعجز عن الانتفاضة على واقع، سلبه كلّ شيء، صحته و عمله و تعليمه و مستقبله لأن “من يكتئب، فهو عاجز عن الثورة أو محروم منها”.
خلاصة القول، تتبدّى مقاربة مصطفى حجازي، لواقع الانسان “المقهور” و “المهدور”، ضرورةً من أجل التسلّح، إن جاز التعبير، بالتحليل العقلاني الذي يمكّن هذا الانسان، من رفض قهره و هدره، لينتفض بعد ذلك ويثور على سلطته، التي تمادت في استغبائه.