بين «إطلالة» الحريري و«أطلال» نصرالله!

إطلالتان ميزتا الأسبوع الماضي في لبنان، بخلاف الهزات الأرضية والسياسية والإقتصادية، التي باتت خبز اللبنانيين اليومي. الأولى إطلالة الرئيس سعد الحريري في ذكرى والده الشهيد ورفاقه، وذلك بعد غياب دام حوالي العام منذ تعليق عمله السياسي، والثانية إطلالة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في ذكرى شهداء الحزب. وبالرغم من تشابه المناسبتين إلا أن الإطلالتين كانتا مختلفتين في الشكل والمضمون، وإن كانت تلتقيان – من حيث يريد أو لا يريد أصحابهما – على التأكيد بأن لا جديد قد طرأ على الوضع اللبناني، يمكن أن يحرك المياه الراكدة ، وبأن الوضع باقٍ على ما هو عليه حتى إشعار آخر. 

في الشكل كانت إطلالة الرئيس الحريري هادئة وجدية ورزينة، رغم الحضور الشعبي الواسع والإلتفاف حوله الذي كان بحد ذاته، رسالة في ظل تشتت المكون السني في البلد ، بقي الحريري على صمته الممزوج بالمرارة والحزن كما بدا ذلك على ملامحه، وكأنه إستعاد معاناة 17 عاماً على المستويين الشخصي والسياسي، في بلد للسياسة فيه معنى آخر غير المألوف والمعروف، هذا الصمت الذي رأى فيه البعض من المراقبين بأنه الصمت الأبلغ من أي كلام، يمكن أن يقال في ظل الظروف الحالية، كما رأى فيه البعض الآخر موقفاً بحد ذاته، يؤكد ثبات الحريري على قراره القاضي بتعليق العمل السياسي في الوقت الحالي، وهو ما يؤشر إلى أن لا جديد جدي يذكر على الساحة السياسية، يمكن أن يحفزه على الرجوع عن قراره، وهو قرار قد يكون ذو مردود إيجابي على المستوى الشخصي بالنسبة للحريري، خاصة في ظروف التحلل التي يعيشها البلد والمؤسسات، إلا أنه بالتأكيد مؤشر سيء للبنان وشعبه، الذي بات يرزح تحت مشكلات فاقت كل تصور.

رغم كل “الإنتصارات” التي حققها داخلياً وإقليمياً – من وجهة نظره طبعاً – فهو عاجز حتى الآن على الأقل عن ترجمتها إلى واقع سياسي مضمون

 إطلالة السيد حسن نصر الله كانت كالعادة من وراء شاشة، وكأغلب الأحيان كانت صاخبة وحامية جداً  على النقيض تماماً من إطلالة الرئيس الحريري، بدأها بهجوم على أميركا عبر تكرار سردية الحصار، وزاد عليها محاولتها “إفساد” الرأي العام اللبناني، وإتهام البعض في لبنان بالخضوع لهذا الإفساد، وذلك عبر إستغلال بعض “الأخطاء” – هو يرى خطايا السلطة مجرد أخطاء – التي تقع فيها السلطة والتركيز عليها، لنشر الدعايات المغرضة، كما كرَّر إتهامه لثورة 17 تشرين بالتماهي  مع محاولات أميركا لنشر الفوضى، وذلك بإشارته إلى تاريخ بدء هذه الفوضى – من وجهة نظره – في العام 2019، وأتبَع هذه الإتهامات بتهديدات بالحرب ضد إسرائيل، وزرع الفوضى في المنطقة في حال وصل الأمر، حد محاولة لَي “الذراع التي تؤلمنا وهي أهلنا وناسنا”، وفي حال التسويف في تنفيذ إتفاق الترسيم، بعد تسريبات مجهولة المصدر عن إمكانية تأجيل شركة توتال البدء بعملية الإستكشاف والتنقيب في المياه اللبنانية، الأمر الذي أثار إستغراب بعض المراقبين الذين وضعوه في إطار “الدعم المعنوي” للبيئة، خاصة مع تزامن الخطاب مع بدء إسرائيل تصدير أول شحنة نفط من حقل كاريش، بينما رأى فيه آخرون تلميحاً إلى الثمن الذي كان منتظَراً أن يحصل عليه الحزب في الداخل، نظير تسهيله إتفاق الترسيم، والذي لم يحصل عليه بعد، وذلك ربما عبر تسهيل عملية إنتخاب مرشحه للرئاسة والسماح له بإدارة البلد مباشرة. 

ووصل تهديد نصرالله – ولعله الكلام الأخطر في الخطاب – حد التلميح بضرب المعارضين في الداخل، بإعتبارهم أدوات هذه “الحرب الأميركية” على لبنان والمقاومة والمنطقة بأسرها، وما عزز هذه الخطورة والجدية في التهديد، ما كتبه بعدها بيومين تقريباً ، رئيس تحرير جريدة “الأخبار” إبراهيم الأمين، وهو صاحب الدور المعروف في المنظومة الإعلامية للحزب، كما أنه صاحب عبارة “تحسسوا رقابكم”، حيث تحدث عن رصد جهاز أمن المقاومة وجود “عملاء” لزرع الفوضى، وأضاف إليهم سياسيين وإعلاميين مطلوب منهم كتابة مقالات ضد حزب الله، وهو ما يضع كل كاتب صحفي أو صاحب رأي مغاير في دائرة الإستهداف، وهذه كلها سيناريوهات ليست غريبة عن جريدة “الأخبار” ورئيس تحريرها، إذ أنها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة بطبيعة الحال، لكن خطورتها تكمن في أنها رسائل قد تكون قابلة للتنفيذ، بخلاف التهديدات ضد إسرائيل، الصعبة التحقق في هذه الظروف، إلا إذا كان الهدف هو الإنتحار، خاصة في ظل هذا الإنسداد في المشهد السياسي، الذي يتحمل مسؤوليته المشاركين في السلطة وحزب الله على رأسهم، خصوصاً مع ما يبدو أنه بداية النهاية لتفاهم مار مخايل بين الحزب والتيار الوطني الحر، حيث أعلن السيد نصر الله ولأول مرة، بأن هذا التفاهم في وضع حرج، ما يبدو تمهيداً لإعلان موته قريباً، وهو ما يزيد الأمر تعقيداً والمأزق تفاقما. 

 جاء خطاب السيد نصر الله كذلك بعد الإجتماع الخماسي في باريس، الذي لم يكلف المشاركون فيه أنفسهم عناء إصدار بيان كعادة هذه الإجتماعات، ما يكشف حجم التأزم والخلاف حول الملف اللبناني بين هذه الدول، الأمر الذي يفسر “غضب” الأمين العام لحزب الله، الناتج عن هذا الإنسداد الذي يكشف حجم المأزق الذي يعاني منه الحزب، حيث أنه ورغم كل “الإنتصارات” التي حققها داخلياً وإقليمياً – من وجهة نظره طبعاً – فهو عاجز حتى الآن على الأقل عن ترجمتها إلى واقع سياسي مضمون.

على المرء والمسؤول بشكل خاص، أن يُحسن هو قراءة الظروف التي تتيح له النجاح في مسيرته

 وبين الإطلالتين اللتين تختصران الوضع اللبناني، لا يزال يرزح لبنان ومواطنيه تحت ثقل السياسات السابقة، والرهانات الخاسرة التي أوصلته إلى هذا المنحدر، من سياسات متشددة ومغامرة، أدخلت لبنان ولا زالت في صراعات أكبر من طاقته على تحملها، وأخرى متهاونة حد الخنوع، تركت لبنان لقمة سائغة لهذه السياسات، متجنبة الصدام مع الفريق الأول الذي يملك القوة على الأرض بدعوى – وهذا فيه شيء من الصدق – الخوف على البلد وناسه، لكنها على الأقل تحملت مسؤوليتها وأخلت الساحة، ولو بشكل موقت، من دون كيل الإتهامات للناس بالعمالة للخارج، وهذه نقطة تحتسب لها، تاركة الفريق الآخر يتحمل مسؤولية إستمرار الإنهيار الناتج عن إستمراره بنفس السياسات، مختبئاً خلف نفس الشعارات البالية، التي أصبحت كليشيهات معروفة عن الحصار والمؤامرة وغيرها، وكأن مهمة الخصم أو العدو، هي تهيئة المناخ السليم لعدوه للعمل، بينما المنطق يقول أن على المرء والمسؤول بشكل خاص، أن يُحسن هو قراءة الظروف التي تتيح له النجاح في مسيرته، وعدم إتخاذ القرارات الإرتجالية المضرة، طلباً لمجد شخصي زائل مهما طال أمده، على حساب مصالح البلد والناس، وإلا فالإنسحاب أفضل للبلد وأشرف للشخص نفسه.

إطلالة سعد الحريري الذي بدا هادئاً – كي لا نقول مرتاحاً – رغم الحزن البادي عليه، وإطلالة السيد حسن نصر الله الذي بالرغم من أنه يُعتبر مالئ الدنيا وشاغل الناس، إلا أنه كان متوتراً وحاداً في طروحاته

 وهذا هو الفرق ما بين الإطلالتين ، إطلالة سعد الحريري الذي بدا هادئاً – كي لا نقول مرتاحاً – رغم الحزن البادي عليه، والذي قد يكون حزناً على مشروع والده الشهيد الذي خبا وإنطفأ، وإطلالة السيد حسن نصر الله الذي بالرغم من أنه يُعتبر مالئ الدنيا وشاغل الناس، إلا أنه كان متوتراً وحاداً في طروحاته.

 وفي المحصلة وبغض النظر عن طبيعة الشخصيتين وموقعهما، فإن هذا الواقع يعكس المأزق الذي هو فيه لبنان وشعبه، والذي يُفترَض أن يكون أكبر من الزعامات والشخصيات، مهما كبرت أو صغرت، لأنو “ما حدا أكبر من بلدو” ، ومن هنا يجب أن نبدأ. 

السابق
ريفي يهاجم حزب الله: كفى تدميرًا للقطاعات!
التالي
بعد الهزات.. طلب من «بلدية بيروت» إلى المواطنين!