
لم يسبق في لبنان، أن شهدت مسألة انتخاب رئيس الجمهورية، عدم اهتمام من قبل جهات اقليمية أو دولية، اذ ليس هناك اكثر من مواقف عامة، تدعو اللبنانيين من قبيل النصح، الى انتخاب رئيس للجمهورية، وهي ليست سوى مواقف روتينية، ترد على ألسنة مسؤولين على المستوى الوزاري في أفضل الأحوال، وفي سياق دبلوماسي لا أكثر.
عدم الاهتمام الخارجي، ينطلق من اعتبارات دولية وسياسية، أبرزها تراجع مستوى الاهتمام بلبنان، في ظل بروز اولويات تتصل بأوضاع دولية، اهمها الحرب في اوكرانيا، أولاً، التصعيد الدولي ضد ايران، المسيطرة على لبنان، بما يعني غياب اي “مقاصّة”، يمكن أن تتيح مساومات وتبادل اوراق بين ايران وخصومها، ورئاسة الجمهورية واحدة منها، ثانياً، ووجود قناعة لدى اكثر من طرف خارجي مؤثر مفادها، أن انتخاب الرئيس في لبنان، ايّاً كانت هويته السياسية، لن يغير في واقع الحال اللبناني ثالثاً وأخيراً.
عدم الاهتمام الخارجي ينطلق من اعتبارات دولية وسياسية أبرزها تراجع مستوى الاهتمام بلبنان في ظل بروز اولويات تتصل بأوضاع دولية
في المقلب اللبناني الداخلي، تبدو هذه الوقائع، راسخة في ذهن العديد من المنهمكين في الاستحقاق الرئاسي سواء، في ضفة “حزب الله” أو لدى بعض المستقلين من النواب واطراف معارضة، وهو ما يزيد من حال الارباك، لدى فريق “حزب الله” بكل مكوناته النيابية الظاهرة والمستترة. ومصدر الارباك نابع، من توفر القدرة والامكانية على الاتيان بمرشح هذا الفريق، اذا كان ذلك أمرا حيوياً ووجودياً لحزب الله، فيما الاشكالية اليوم لدى هذا الفريق لا تتصل بقدرته، بل بحاجته الى بيع هذه القدرة لمن يشتري، في مقابل ان يوفر شروط الدعم المالي والاقتصادي للدولة بشروطها القائمة.
اصحاب هذا القول انفسهم اعتبروا ان اقتلاع “الحريرية السياسية” من المشهد السياسي اللبناني هو أمرٌ حيوي لاستنقاذ لبنان سياسياً واقتصادياً ومن الهيمنة الغربية ومن علّة الفساد
بهذا المعنى، عندما يصف بعض الممانعين “ان السعودية لا تدير ظهرها للبنان بل تتدخل سلبياً”، ويضربون مثالا على ذلك، انكفاء الرئيس سعد الحريري عن العمل السياسي بضغط سعودي، يمكن فهم هذا التوصيف للسياسة السعودية، انه رغبة بتدخل سعودي، يتماهى مع مصالح الممانعة وحساباتها في لبنان، علماً أنّ اصحاب هذا القول انفسهم، اعتبروا ان اقتلاع “الحريرية السياسية” من المشهد السياسي اللبناني، هو أمرٌ حيوي لاستنقاذ لبنان سياسياً واقتصادياً، ومن الهيمنة الغربية ومن علّة الفساد، لا بل كانت هذه الممانعة نفسها، تمنّي النفس باستعادة املاك سوليدير لخزينة الدولة، وشنت في سبيل ذلك حملات سياسية واعلامية على كل ما يمت الى السعودية وآل سعود بصلة في لبنان وغيره.
التلويح بال 65 صوتا لانتخاب الرئيس هي ايضا محاولة جسّ نبض لرصد ردود الفعل ومحاولة استدراج اي موقف خارجي بالدرجة الأولى
التلويح بال 65 صوتا لانتخاب الرئيس، كما رشح عن اطراف الممانعة، لا سيما معاون الرئيس نبيه بري النائب علي حسن خليل، والمرشح غير المعلن سليمان فرنجية، هي ايضا محاولة جسّ نبض لرصد ردود الفعل، ومحاولة استدراج اي موقف خارجي بالدرجة الأولى، ايّ اظهار ان فريق “حزب الله” لديه مرشح هو فرنجية، ويمكن له ان يوصله الى قصر بعبدا، اذا ما بقيت الأبواب موصدة في وجهه. ولكن بعض المتابعين لهذا الاستحقاق واذ يشككون بجدية “حزب الله” و”حركة أمل” تبني فرنجية، خصوصا أن صدور هذا الترشيح وتبنيه، من قبل “الثنائي الشيعي”، سيزيد من التأزم الداخلي ولن يفتح اي نافذة خلاص من الخارج.
بهذا المعنى ورقة انتخاب فرنجية، فيها من الخسائر اكثر بكثير من مكاسب، لا يحتاجها “حزب الله” اليوم، فالتحديات التي تواجه لبنان اليوم، ليست شنّ حرب من بل اسرائيل، لأن نتائج الحرب على لبنان تتحقق من دون ان تطلق اسرائيل قذيفة واحدة، ومن دون ان تتكلف قطرة دم لأحد جنودها، في ظل انهيار اقتصادي ومالي، وتراجع مستمر في قدرات لبنان التنافسية مع اسرائيل حتى عربياً، وفقدان لبنان لجاذبية الاستثمار، وتزعزع السلطات الدستورية ولا سيما القضائية، وغير ذلك من مظاهر الازمة المتشعبة، والتي انهكت لبنان وشعبه، وجعلت من حاجة اسرائيل الى الحرب على لبنان شبه منعدمة، بعدما انتقمت منه بايدي حكامه وب’معول الممانعة” وسواه.
لذا، فان التحديات امام سلطة “حزب الله”، هو ضمان الحدّ الأدنى من بقاء الدولة ومؤسساتها طالما هي في قبضته، وهو لا يمتلك خيارات بديلة عن العون الخارجي والمال العربي تحديدا، فمقولة التوجه شرقا التي نادى بها “حزب الله”، لم تترجم بخطط أو زخم سياسي، أو ظهر في طياتها اي جدية، فضلا عن مجابهته لأي اصلاح يمكن ان يخل بنفوذه او نفوذ حلفائه.
الزيارة الاخيرة التي قام بها وفد “حزب الله” الى جنبلاط كان الهدف منها اظهار استعداد “حزب الله” القبول باي مرشح ترضى به السعودية أو تؤيده
من هنا، يمكن فهم اعطاء حيّز التحرك الخارجي والداخلي لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، اذ لم يعد لدى “حزب الله” سوى جنبلاط ليخاطب من خلاله السعودية، والزيارة الاخيرة التي قام بها وفد “حزب الله” الى جنبلاط، كان الهدف منها اظهار استعداد “حزب الله”، القبول باي مرشح ترضى به السعودية أو تؤيده، وهو قبول مشروط بتدخل سعودي “ايجابي” في لبنان، يحمي الدولة من الانهيار.
الموقف السعودي، هو نفسه الذي تبلغه موفد جنبلاط الى الرياض النائب وائل ابو فاعور، اي ان الرياض غير معنية بمن يتم انتخابه رئيساً، وليست معنية برفض فرنجية او تأييد جوزاف عون، او حتى رفض او تبني ميشال معوض، فالرياض بحسب مصادر دبلوماسية عربية، “تنتظر اكتمال تكوين السلطة من رئيس جمهورية ورئيس حكومة، وحكومة وتترقب صدور البيان الوزاري للحكومة المفترضة لتبني على الشيء مقتضاه”.
و لعل الموقف “الحاد” الذي خرجت به القمة الروحية جراء عدم إنتخاب رئيس و”إستدعاء” النواب المسيحيين الى بكركي، يظهر عمق الأزمة الوطنية وتفاقمها.