
حُكمْنا في هذه البلدة بشُذّاذٍ أضاعونا، فحُقَّ لنا أن نعرض على نوابها وشعبها نموذجًا لحاكمٍ من التاريخ لعل بعض خصاله الحميدة، ولم نقل كلها ليقيننا باستحالة ذلك، يتوافر في من يريدون اختياره لحكم أطياف بلدتنا المتنوعة، بمسيحييها وشيعتها ودروزها، بالحق والعدل والقسطاس المستقيم.
لم يكن حاكمنا المنشود أعرابيًّا يحكم عشيرة على حافة الصحراء، بل رئيس دولة تضم ما يسمى اليوم السعودية والكويت والبحرين والإمارات وعُمان وقطر والأردن وسوريا ولبنان والعراق ومصر وليبيا وتونس والمغرب والجزائر، على اتساعها وعدد سكانها الكبير آنذاك، وكانت بحقٍّ “القوة العظمى” الوحيدة في النظام العالمي آنذاك.
كان ذلك الرجل يعلم علمَ يقينٍ أن الحاكم إذا رتع رتعت الرعية، فاشتدَّ في محاسبة نفسه وأهله، وكان إذا نهى الناس عن شيءٍ قال لأهله: إن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هبتم هابوا، ولا أوتى بأحدكم وقع في ما نهيت عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني.
لم يفتش هذا الحاكم لابنه أو ابنته عن نسب من اللصوص وممن لا ذمة لهم يأتون الحكم حفاة عراة فإذا بهم في بضع سنين مليارديرات قد سرقوا أموال الدولة وهرّبوها إلى عواصم الغرب
كان شديد المراقبة لتصرفات أهله في ما يسمى اليوم “المرافق العامة”، ومنها في ذلك الزمان “الحِمَى” [أرض مُعشِبةٌ كانت تخصصها الدولة لعامة الشعب يسيِّبون فيها إبلهم مدة لتأكل وتسمن]، إلى درجة أنه عندما رأى في السوق إبلًا لابنه رعت في الحمى مدةً معروضة للبيع وكانت أسمنَ إبل السوق، أمر ابنه ببيعها وأخْذِ رأسمالِه منها فقط وجعل بقية الثمن في خزينة الدولة، وقال له: بخٍ بخٍ يا ابن الحاكم [بخٍ بخٍ تقالان عند الإعجاب بفعل الآخرين لكنه قالها لابنه استنكارًا، وذلك كمن يقول في زمننا “برافو” لأمر يستنكره]!!! يقول الناس: ارعوا إبل ابن الحاكم، اسقوا إبل الحاكم.
وفي حادثة أخرى، استرخص ذلك الحاكم بضاعة اشتراها ابنه هذا نفسه في السوق بأربعين ألفاً، وقال له: كأني أشاهد الناس يقولون: ابنُ الحاكم فلا تغلوا عليه، وإني معطيك ربح الدرهم درهمًا (أي ضعف ثمن البضاعة)، ثم دعا التجار فابتاعوها بأربعمئة ألف (بعشرة أضعاف)، فأعطى ابنه ثمانين ألفاً وبعث الباقي إلى خزينة الدولة ليقسم على الشعب.
كما فرض من عطاء خزينة الدولة لابنه هذا أقل مما أعطى غيره، لأنه كان أسبق في بناء الدولة من ابنه، كما أرسل إلى ابن له ثان وقال: أنفقت عليك من مال الخزينة شهراً، ولست بزائدِكَ عليه، وإني أعطيك ثمرًا بالعالية فائت رجلاً من التجار فاستشركه وأنفق على نفسكَ وعيالك. ونزع من يدي ابنه الثاني هذا مرة آنيةً وفضةً ومتاعاً وسيفاً محلى كان أهل زوجته في العراق وهبوها له، فجعله في خزينة الدولة، تحرِّيًا من هذا الحاكم أن يكون سبب ما اكتسبه ابنُه جاهَ أبيه ومنصبه، ورأى فيه موضع شبهة.
لم يكن حاكمنا المنشود أعرابيًّا يحكم عشيرة على حافة الصحراء بل رئيس دولة تضم كل الدول العربية والخليجية
وقسم هذا الحاكم مرة مروطاً من خزينة المال بين النساء، فبقي منها مرط جيد، فأشار عليه بعضهم بإعطائه زوجته، فقال: أم فلانٍ أحق به [يريد إحدى النسوة اللاتي سبقن زوجته في فضل بناء الدولة.
إقرأ ايضاً: «هدنة قضائية»..«العين» على مجلس القضاء وهذا ما يُحضر للبيطار!
طلب يدَ ابنةِ بائعة لبن فقيرة لابنه حين سمعها أثناء عسسه في الليل لتفقد أحوال الرعية ترفض طلب أمِّها بمذق اللبن (خلطه) بالماء ليكثر وزنه وثمنه وتقول: إن كان الحاكم لا يرانا فرَبُّ الحاكم يرانا، فعلم أن العرق دساس، وأن زوجةً لولده بهذه الصفات الحميدة سوف تورّث أبناءها وأحفادها من خصالها، وهكذا كان، فكان مِن عِرْقها حفيدٌ من أعدل حكام الأرض.
لم يفتش هذا الحاكم لابنه أو ابنته عن نسب من اللصوص وممن لا ذمة لهم، يأتون الحكم حفاة عراة فإذا بهم في بضع سنين مليارديرات قد سرقوا أموال الدولة وهرّبوها إلى عواصم الغرب الذي يمثل علينا كل أصناف الطهر وهو ليس سوى غانية في ثياب رهبان، وكان يعلم ان الدول لا تبنى باللصوص وحثالات المجتمعات الذين لا همَّ لهم إلا نهب ثروات المواطنين وترويعهم وتهديدهم في أرزاقهم لإبقائهم خاضعين، فلم يكن أي من أنسبائه رؤساء مجالس شركات وسماسرة يبيعون ثروات البلاد والعباد ويتاجرون بعملته وقُوْته، وحتى مطلوبين للعدالة ومتمردين على الخضوع لها، فإنهم لو كانوا كذلك لاستجلبهم من أقصى الأرض وأوقع عليهم العقوبة المناسبة، كما فعل مع ابن حاكم مصر عمرو بن العاص، حين أمر مواطنًا مصريًّا من عامة الشعب بجلده على الملأ حين ثبت له أنه آذاه تكبُّرًا واعتدادًا بنسبه.
الدول لا تبنى إلا بالعدل ، ولا تنهض إلا حينما يكون الحاكم والمحكوم أمام القانون سواء.
كان يحكم دولة لا يجرؤ سفير على التدخل في أدنى شأن من شؤونها فما بالنا بمسخ من مسوخه يجرؤ على دخول قصر العدل وتهديد القضاة.
ما مرَّ هو غيض من فيض المواقف التي تدل على رفعة هذا الحاكم وترفّعه عن الأموال العامة ومنع أقربائه وأهله من الاستفادة من حكمه، إذ كان بفراسته يعلم أن من القواعد الطبيعية المؤيَّدة بالمشاهدة أن مدَّ الحاكم يده إلى مال الدولة يجعل الفتق يتّسع على الراتق، وخزينة الدولة تختل، والخلل يسري إلى جميع فروع المصالح، كما يجعل المستسِرَّ بالخيانة يجهر بها، كما كان يعلم أن الحاكم إذا كان ذا عفةٍ عن مال الناس ومحاسبًا لنفسه وأهل بيته أكثر مما يحاسب به ولاته أحبوه وحدبوا عليه وأخلصوا في طاعته وزادت هيبته في نفوسهم.
قال الفرزدق في شعره قديمًا مخاطبًا جريرًا بعد أن عدَّد خصال آبائه الشريفة، مثل السماحة والعطاء والفصاحة والشجاعة والنسب وغيرها:
أولئكَ آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعَتْنا يا جريرُ المَجامعُ
وأنا بدوري أقول لنواب أمتنا في هذه البلاد:
هو من آبائي فأْتونا بخصاله … أو ببعضِها يا نوابَ المجامعِ
اللهم قد بلغت، اللهم فاشهدْ.