بعد فُقدانها على أيدي نُخَبِها التاريخيّة .. «أنتلجنسيا» النضال الفلسطيني في مهب الغياب!

بين أيدينا كتاب جديد ل صقر أبو فخر ، صادرٌ تحت عنوان : ” تحوّلات النخبة الفلسطينية : مراجعات في التاريخ والهويّة ” ( في طبعة أولى 2022 عن ” المؤسسة العربية ” في بيروت ويُوزَّع هذا الكتاب في ” دار الفارس ” في عَمّان – الأردن . ) .

ربما كان التكوين الإجتماعي لفلسطين قبل النكبة قد أدّى إلى أسباب كثيرة أخرى الى فُقدان فلسطين

صقر أبو فخر

وقبل أن نتحدّث عن هذا الكتاب ، لا بُدّ لنا، في البداية ، من القول : بأنّ المَشهود ل صقرأبو فخر ، بأنّه المناضل الثقافي الفلسطيني ، وهو صاحِبُ تاريخٍ إبداعيّ ناصع ، في هذا المجال ، وهذا عائدٌ ، أوّلاً وأخيراً ، إلى أنّ هذا المثقَّف العضويّ الملتزم ، من جانبه ، وبِدَوره الخلاَّق ، قد نَذَر فِكرهُ الطليعيّ المتنوّر وإمكاناته المعرفيّة في سبيل إبقاء القضية الفلسطينية ، منارةً متوهِّجة من أجل أن يهتدي بها سالِكو طريق تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني . ف صقر أبو فخر ، هذا الباحث والمحلِّل السياسي والصحافي ، الذي يمتاز بأنّه صاحِبُ باعٍ طويلة في معرفة مِن أين ” تُؤكَل الكتِفُ” ،في مقارباته الجدّيّة والعميقة للقضيّة الفلسطينية ، نراه اليوم يُجذِّر، أكثر فأكثر، ولاءَهُ الوطنيّ، في هذا الكتاب الذي يكتب فيه تاريخاً حديثاً لفلسطين، وهو الكتاب الذي نرى فيه ، أنّه يضمّ بعض أوراق أبوفخر الثُّبوتيّة ( نسبةً إلى مؤلَّفاته ) في خوضه الصِّراع الثّقافي الحضاري ضدّ العدوّ الصهيوني .

عجزت القيادة السياسية الوطنية التقليدية والعائلية والمؤسسات الفلسطينية الأخرى عن تطوير برنامج شامل من شأنه قيادة المجتمع نحو التحرر الوطني وتقرير المصير


ففي هذا الكتاب ، نرى صاحِبه يجتازُ عتبةً جديدة ، من عتبات مقارباته الموضوعيّة للقضيّة الفلسطينيّة، إذ إنّ أبو فخر، في هذا الكتاب، يجتاز عتبة المؤرِّخ الموضوعيّ، بكفاءةٍ واقتدارٍ ملحوظَين ولافتَين لِقارىء هذا الكتاب القَيِّم من حيث مضمونه الذي تجعله مصادره ومَراجعه وموضوعيّته، – ( في تقديم المعلومات الضرورية والمطلوبة والحقائق المجرَّدة الغنيّ بها)،- واحداً من أفضل الكتب ، في تاريخ المجال الإبداعي التّأريخيّ الفلسطيني والعربي . هذا، وإضافةً إلى ذلك يتميّز هذا الكتاب بأنّه دراسةٌ تبحثُ في أصل الصِّراع الفلسطيني – الصهيوني، من خلال البحث النَّقديّ ، الذي يستخدِم أسلوب التَّعرِيةِ والكشف المَعرِفييَّن ، وهو هنا أسلوبٌ يُعرّي ويكشف خلفِيّةَ وجوهريّةَ الوجهِ الفلسطينيّ لهذا الصِّراع ، وذلك بِقَدرِ ما تبحث هذه الدّراسة – ضِمناً – في ماهية هذا الصِّراع نفسه .
إذاً ، فإنّ هذه الدراسة تبحث في ” تحوُّلات النّخبة الفلسطينية ” وهي دراسة قوامها هو ” مراجَعات في تاريخ وهوِّيَّة ” هذه النُّخبة التي هي موضوع البحث هنا .

روحية الكتاب ومحتوياته

وتنهضُ رُوحِيّةُ هذا الكتاب ، على الفكرة الواقعيّة التالية : بَعد فُقدان فلسطين على أيدي نُخَبِها التّاريخيّة، تَظهرُ أنتلجنسيا النضال الفلسطيني في مَهَبّ الغِياب !
وتتألف محتويات هذا الكتاب من تقديمٍ ؛ وأربعة فصول : والفصل الأوّل يتناول : تحوُّلات النخبة الفلسطينية : من الأعيان والأغوات إلى التّبعثُر وضمور الفاعليّة ” . وفي هذا الفصل الأوّل ، نقرأ :
” غمرتنا الدولة العثمانية بأفضالها طوال أربعمئة سنة ، فلم تتطور لدينا ، نحن العرب ، أيذ هوية قومية جليّة حتى الطور الأخير من عصر القوميات ، وبقينا لابثين عند هوياتنا الوشائجية الموروثة . والفلسطينيون في ظل الدولة العثمانية كانوا ، مثل جميع سكان سوريا ، يدينون في ولاءاتهم للعشيرة أوّلاً ، ثم للطائفة أو القرية . وفكرة الوطن، أو الولاء للوطن ، فكرة جديدة تماماً على الثقافة السياسية ، وهي لم تبدأ في الظهور إلاّ في حقبة الاستعمار البريطاني أو قبل ذلك بقليل . وفي فلسطين حاولت النّخب المدينية التي درست في إسطمبول وبيروت ودمشق ، والقليل منها في أوروبا ، أن تُطور هوية قومية عربية حديثة للفلسطينيين . وهذا ما سعى إليه المفتي الحاج أمين الحسيني مع النّخب التي التفّت حوله . غير أنّ عموم الشعب بقي ، على الرغم من المخاطر الداهمة التي جسّدتها الحركة الصهيونية وموجات الهجرة اليهودية ، منقسماً إلى مكوّناته الأولى كالعائلة والعشيرة والمنطقة ، مع ميلٍ أو شعورٍ عميق بالإنتماء إلى العرب وإلى سوريا بالتحديد . لكنّ ذلك المَيل كان ميلاً أقواميّاً وليس ميلاً قوميّاً واضحاً . على أنّ القوميّ يظهر في ترابط بنيته وتدامج عناصره التكوينية ، ويُنتج وعياً قوميّاً . أمّا الأقوامي فهو مذرَّر ومفتَّت ومتجاوِر وغير متفاعِل ، ولايُنتج إلاّ فكراً تقليديّاً إيمانيّاً .

من دون الخروج الفلسطيني من طور الجماعة إلى طور المجتمع سيظل وعي بعض النخب الفلسطينية مستَلَباً


” والواضح أنّ هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى كان لها الشأن العميق في تفسُّخ فئة الأعيان والأغوات التي تكونت بعد قانون الأراضي العثمانية الذي أُقرّ في عام 1858 ، وكذلك بقايا الفئات الإجتماعية القديمة التي راحت تتحلل تدريجاً بعد الحرب الكونية الأولى . ولقد حافظت التشكيلات الزعامية الفلسطينية على تذرُّر المجتمع ، ورسَّخت فيه الوعي الأقوامي لا الوطني . وظلت الانقسامات العائلية ، في المدن وفي الأرياف على السواء ، عنصراً مهيمناً في السياسات الفلسطينية .

النخبة الفلسطينية والأنتلجنسياالفلسطينية

وعن النخبة الفلسطينية يشير الكاتب قائلا : إنني أفضّل استعمال كلمة ( أو مصطلح ) ” النخبة للفئات السائدة الحديثة بدلاً من ” الصفوة ” أو ” الطبقات العليا ” .
“والنخبة الفلسطينية، بحسب هذه الدراسة ، هي التي قادت المجتمع الفلسطيني في مراحله المتعاقبة ، منذ الحقبة العثمانية حتى قيامالسلطة الفلسطينية بعد توقيع اتّفاق أوسلو في سنة 1993 .
ويوضح الكاتب قائلاً : إنّ النخبة هي غير الأنتلجنسيا التي هي فئة من المثقفين المستقلين عن أيّ سلطة ، دينية أكانت أم سياسية ، وهؤلاء يكرّسون حياتهم وجهدهم لنشر رؤى وأفكار ومواقف تتعلق ببناء الدولة والمجتمع واعدالة والتقدّم ونهضة الأمّة ، وطرائق مواجهة المشكلات الكبرى كالتدامج الوطني ، أو تحقيق القضايا الكبرى كالوحدة العربية وتحرير فلسطين والتحوّل الديموقراطي … إلخ .
ويلفت الكاتب إلى أنّ ” ضمور ألأنتلجنسيا الفلسطينية وانحسار فاعليّتها اليوم قد أدّى إلى شيخوخة المؤسسات العلمية والمنظمات النضالية التاريخية ، الأمر الذي ربّما يؤدي لاحقاً ( والرأي هنا للكاتب ) إلى موت نوع من السياسة والتفكير السياسي الفاعل ، والتحول نحو السياسة بمعناها المبتذل ، أي تأمين مصالح المجموعات والأفراد في نطاق الدولة .
وتؤكد هذه الدراسة على ما يلي : ” … ولقد ساهم التكوين الإجتماعي الفلسطيني ، ومعه النّخب التي ظهرت في الحقبة العثماني وبعدها ، في تعميق القصور الذاتي أمام المشروع الصهيوني . وجراء ذلك فشل الفلسطينيون في تطوير حركة مقاومة فاعلة ونشِطة ضدّ الهجرة اليهودية وضد الانتداب البريطاني معاً . وعجزت القيادة السياسية الوطنية التقليدية والعائلية والمؤسسات الفلسطينية الأخرى عن تطوير برنامج شامل من شأنه قيادة المجتمع نحو التحرّر الوطني وتقرير المصير … وربّما – ( وعلى ما يعلن الكاتب هنا ) – كان التكوين الإجتماعي لفلسطين ، قبل النكبة ، قد أدّى إضافة إلى أسباب كثيرة أخرى ، إلى فُقدان فلسطين .

النخب الفلسطينية الجديدة تكاد تنحصر اليوم في قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المتخشِّبة وفي مسؤولي السلطة الفلسطينية ومديري مؤسساتها وأجهزتها الأمنية والسياسية …

النخب الفلسطينية الجديدة تكاد تنحصر اليوم في قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المتخشِّبة وفي مسؤولي السلطة الفلسطينية ومديري مؤسساتها وأجهزتها الأمنية والسياسية


ويقول الكاتب ” إنّ مفهوم الوطن هو أحد منجزات الحداثة ، وكان من المتوقع أن يساهم ذلك المفهوم في تكوين هوية وطنية أو قومية لفلسطين تُنتج شكلاً حديثاً من الاندماج الإجتماعي نقيضاً للتذرُر الموروث . لكنّ العائلة والعشيرة ، ومعهما الطائفة ، كانت التشكيلات الأكثر عناداً والأكثر صموداً في وجه عملية الإندماج الإجتماعي . وظل الفلسطينيون بمعونة الوعي المشائخي راقدين في نواويسهم الحجرية القديمة على غرار أهلهم في بقية بلاد الشام ، ولابثين عند صفتهم المحببة كجماعة أهلية ، لا كمجتمع . وكانت نُخبهم مطابقة لتكوينهم الإجتماعي ذاك ، وللوعي المشيخي والقبلي السائدين . في ما عدا قلة قليلة هي النخبة المتنورة والطليعية ، أي الأنتلجنسيا .

نُخب متخشِّبة !

وتؤكد هذه الدراسةعلى أنّ ” النخب الفلسطينية الجديدة تكاد تنحصر اليوم في قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها المتخشِّبة ، وفي مسؤولي السلطة الفلسطينية ومديري مؤسساتها وأجهزتهما الأمنية والسياسية ، علاوة على ناشطي منظمات المجتمع المدني …الخ “
وينتهي الفصل الأول بالخشية التالية ، إذ يعلن الكاتب قائلاً : ” وإني لأخشى أن يصبح الوطن لدى الفلسطينيين ، جراء نضوب النخب السياسية المفكرة والمناضلة ( الأنتلجنسيا ) وضمور فاعليتها وجفاف مخيلتها وقصور تأثيرها ، مثل العضو المبتور : يحسّ المرء به ويشعر بوجوده ، ويتحسسه أحياناً ، ويعتقد في كثير من اللحظات كأنه ما زال موجوداً ، بينما هو في الواقع ما عاد موجوداً .
والفصل الثاني من هذه الدراسة يدور حول تجربة ” ظاهر العمر الزيداني : هل هو بطلٌ أم متمرد؟ ” ، ويؤكد هذا الفصل على أنّ ظاهر العمر لم يكن بطلاً قوميّاً على الإطلاق .

وعيٌ مستَلَب !

والفصل الثالث خُصّص للحديث عن ” الرموز والهوية الفلسطينية : من الجماعة إلى المجتمع ” ( والعنوان الداخلي لهذا الفصل هو : ” الرموزوالهوية الفلسطينية والوعي المستَلَب ” ) . ويشدِّد هذا الفصل على ما يُحذِّرمنه الكاتب : إذ يؤكد على الحقيقة التالية ف: ” مِن دون الخروج الفلسطيني من طور الجماعة إلى طور المجتمع سيبقى الوعي الشعبي العام تقليدياً موروثاً ، وسيظل وعي بعض النخب ( الفلسطينية ) مستَلَباً . ” . والفصل الرابع والأخير يستعرض ” السِّير والمذكّرات الفلسطينية ، تحت عنوان : ” ألمكان والهوية والمَحو .” . وقد تمكنت هذه الدراسة من رصد 245 سيرة ذاتية فلسطينية كُتب معظمها في الربع الأخير من القرن المنصرم.

السابق
«إنتفاضة» نيابية وشعبية داخل البرلمان وخارجه..و«حزب الله» يطوق باسيل رئاسياً!
التالي
هل من ازمة خبز؟