كَمينٌ في العاقبية: تبايُن مُقاربتا الدولة اللبنانية و«حزب الله» لأزمة الاعتداء على «اليونيفيل»، ودلالاته

اليونيفيل

سلّط حادث مقتل جندي إيرلندي عامل في صفوف القوات الدولية في لبنان، منتصف ديسمبر 2022، الضوء مجدداً على أنشطة حزب الله وأدواره، كما على سلوكه المُراوِغ، سواء في التنصُّل من الحادث أو السعي لإيجاد مخارج له مع القوات الدولية، فضلاً عن تبايُن مقاربته تجاه أزمة الاعتداء مع مقاربة الدولة اللبنانية لها. وأتت ظروف الحادث متزامنة مع أزمة سياسية مستفحلة بسبب العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، ومأزق الحزب المستمر في التعاطي مع هذا الملف الداخلي. 

اعتداء العاقبية وما أثاره من جدل

أراد حزب الله التعامل مع قضية مقتل الجندي الإيرلندي شون روني (23 عاماً)، العامل في قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، على نمط تقليدي يَجِد الأعذار والمبررات لأي حدث أمني يتورط فيه مباشرة أو من خلال أنصاره. غير أن التطوّر السريع الذي عبّر عنه الحزب داخل سردياته بشأن الحادث، لفت إلى حرج وضيق أو إلى تكتيكات جديدة اُضطُرَّ إلى انتهاجها للتخفيف من الضجيج الدولي والأممي الذي أحاط بالقضية.

اقرأ أيضاً: حزب الله «يُخفي» 6 مطلوبين في إعتداء العاقبية.. والقضاء «مأسور» سياسياً!

جرت الحادثة في بلدة العاقبية في جنوب لبنان، في 14 ديسمبر 2022، حين هاجم مسلحون عربات تابعة لليونيفيل قيل إنها ضلَّت طريقها المعتمَد عادة للانتقال من الجنوب صوب العاصمة بيروت. وأدى الحادث إلى مقتل الجندي الإيرلندي، وإصابة 3 جنود آخرين. وسعى حزب الله منذ اللحظة الأولى إلى النأي بنفسه تماماً عن الحادث، وتفسير الأمر بأنه عرضي غير مُدبَّر سببه ردّ فعل “الأهالي” في المنطقة مما اعتبروه سلوكاً مُريباً لعربات القوة الدولية. غير أن الحزب الذي حاول من خلال التفسير إضفاء مبرر شرعي للحادث، عاد وتراجع عن المضي في هذا السلوك وراح يبحث عن مخارج مع قوات اليونيفيل.

ويَستخدم الحزب تعبير “الأهالي” لإدراج كثير من الصدامات الأمنية في إطار مدني بعيد عن هياكله الأمنية والعسكرية. وسَبَق لـ “الأهالي” أن اصطدموا مع القوات الدولية في الجنوب عدة مرات ما بين 2006-2011، كما سُجِّل لهم مهاجمة فريق من “المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” بشأن اغتيال رفيق الحريري كان يُحقِّق في منطقة الضاحية معقل حزب الله بالقرب من بيروت عام 2010. ويُنظر إلى مصطلح “الأهالي” في لبنان بصفته تعبيراً عن تشكلات تتحرك بأوامر من حزب الله، ووفق خططه، وليست تعبيراً عن رأي عام مدني مستقل كما يُراد أن يفهم من هذا التعبير.

وكان واضحاً أن ردود فعل المعنيين بالحادث لم تُصادق البتة على نظرية “الأهالي”، وعرضية الحادث. وبدا وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي واضحاً وحاسماً في الإعلان في 16 ديسمير أن الحادث جريمة، ولم يكن عرضياً بل مُدبَّراً، بل أنه بدأ بكمين في بلدة الصرفند أفلتت منه القوة الدولية لتُعاد محاصرتها لاحقاً في العاقبية. وقد أعلن الوزير اللبناني أن الجهة التي تقف وراء الحادث معروفة. وجاءت تصريحات الوزير اللبناني سياسية تعبّر عن موقف رسمي قبل انتهاء التحقيقات. في المقابل، فإن البيان الصادر عن اليونيفيل لم يقبل بنظرية “الأهالي”، وطالب بتحقيق شفاف للكشف عن ملابسات الحادث.

مأزق «حزب الله»

استشعر حزب الله جدية المأزق وإمكانية تطوره بشكل سيء دولياً. وكان لافتاً عقد اجتماع عبر التواصل التقني عن بعد بين مسؤول رفيع من حزب الله وأحد مسؤولي اليونيفيل، على نحوٍ يوحي باعتراف ضمني للحزب بتورطه في الحادث وسعيه إلى إيجاد مخرجٍ ما مع القوة الأممية. والواضح أن قبول مسؤول اليونيفيل عقد هذا الاجتماع مع مسؤول من حزب الله، وليس مع مسؤول حكومي يمثل الدولة اللبنانية التي يُفترض أن القوة الأممية تتعامل معها حصراً، يكشف أيضاً عن إرادة اليونيفيل لإظهار الحرص على معالجة الأمر مع الطرف المسؤول عن ارتكابه من جهة، وإيجاد سُبُل للاهتداء إلى تسوية للأزمة وليس تصعيدها.

على أن مأزق حزب الله أخذ يتفاقم إثر تسليمه لأحد المتهمين المتورطين في الاعتداء، إذ مثَّل ذلك اعترافاً من قبل الحزب بأن المتهم عنصر تابعٌ له. ثم أن عملية التسليم تفضح سطوة الحزب على الدولة اللبنانية من حيث أن القوى الأمنية اللبنانية هي التي يجب عليها القبض على المتهم بقوة القانون لا أن يُسلَّمَ من قبل جهة سياسية لبنانية بوصف ذلك خياراً قابلاً للمساومة. وقد كشفت التحقيقات الرسمية عن أسماء متورطين آخرين متوارين عن الأنظار من دون السؤال عن مسؤولية حزب الله في إخفائهم وتسهيل تواريهم والسبب وراء عدم تسليمهم أيضاً. وعلى الرغم من موقف وزير الداخلية الواضح بعد ساعات على الحادث في اتهام جهة بعينها تقف وراء الحادث، مُلمِّحاً إلى مسؤولية حزب الله، فإنّ ديباجة التحقيق الرسمي اللبناني استعاد نسبياً سردية حزب الله في شرح ظروف سوء التفاهم والصدام بين قوة من اليونيفيل و”الأهالي” في العاقبية.

ومثَّل حادث العاقبية، في أحد أبعاده، تعبيراً جديداً عن غضب حزب الله من القوة الدولية، لاسيما بعد أن أدخل قرار التمديد الأممي لها رقم 2650 الصادر في 31 أغسطس 2022 تعديلاً يؤكد حرية قيام القوة بمهامها، وفي شكل مستقل، ومن دون أي مواكبة من قبل الجيش اللبناني. وقد أثار هذا التعديل غضب حزب الله، ودفع أمينه العام حسن نصر الله إلى توجيه تحذير صريح لجنود اليونيفيل، في 17 سبتمبر، بأن “لا يدفعوا الأمور إلى مكان ليس لمصلحتهم”. فيما أعلن الشيخ محمد النابلسي، وهو قيادي في الحزب و”الوكيل الشرعي” للمرشد الإيراني علي خامنئي في لبنان”، أن هذا التعديل “يُحوِّل قوات اليونيفيل إلى قوات احتلال”.

وتؤكد هذه المعطيات أن حزب الله من خلال مواقفه، وعلى أعلى المستويات، أخذ يُحضِّر بيئته وأنصاره وسكان الجنوب التي تعمل القوات لدولية في نطاقها لمعاداة اليونيفل. وقد عبّر رئيس الوزراء الإيرلندي ميهول مارتن عن هذا الأمر في تصريحه بأن قوات اليونيفيل تعمل في بيئة معادية. ويؤكد هذا المعطى أيضاً أن الحادث، سواء كان مدبّراً جرى بناء على تعليمات وأوامر أو كان عرضياً ابن ساعته، حصل على خلفية كراهية جماعية للقوة الدولية أشاعها الحزب في تلك المناطق، ما جعله مسؤولاً مباشراً عن الحادث أمام قيادة اليونيفيل ومجلس الأمن الذي منحها التفويض، وكذلك أمام إيرلندا البلد الذي ينتمي إليه الجندي القتيل.

الأبعاد السياسية لتعاطي الأطراف مع الحادثة

لقد كشفت مُلابسات التعامل مع حادثة العاقبية عن أعراض جديدة لافتة في المشهد السياسي اللبناني، أبرزها الآتي:

– عَبَّر موقف وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي، المقرّب من رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي، عن قدرة على اتخاذ موقف سريع وواضح يلاقي ما يتطلبه الحدث من موقف رسمي. فلم تعمل رواية وزارة الداخلية على تغطية رواية حزب الله للحادث، ولم تمنحها أية شرعية سياسية وقانونية. وبدا الموقف الرسمي اللبناني في نفس الوقت مُستجيباً لما هو مطلوب للرد على الضغوط الأممية والدولية جراء الاعتداء على أحد أذرع مجلس الأمن الدولي العسكرية.

– عبَّرَت مسارعة الوزير اللبناني إلى نفي الصفة الأهلية عن الحادث، وتحميل مسؤوليته إلى جهة بعينها حتى قبل انتهاء التحقيقات، عن تبرُّم حكومي من سلوك حزب الله، والقدرة على الاستفادة من هامش مناكفة للحزب فرضتها دراماتيكية الاعتداء ضد قوات دولية. كما تعبّر الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة برفقة قائد الجيش اللبناني جوزيف عون، في 16 ديسمبر، إلى مقر اليونيفيل في جنوب لبنان، عن أخذ القيادتين السياسية والعسكرية اللبنانية مسافة من حزب الله ومأزقه في هذا الحدث.

– كان لافتاً تجنُّب حزب الله الردّ على اتهامات وزير الداخلية على نحوٍ كشف عن حرج وارتباك داخل الحزب لمقاربة المأزق الذي نجم عن هذه الحادثة، وأفصح أيضاً عن تفّهم الحزب للضرورات التي أملت على وزير في حكومة لبنان اتخاذ مواقف مُدينة للحادث، ورافضة لرواية الحزب، ومُتضامنة مع القوات الدولية وروايتها بشأن ما حصل.

– يفضح الموقف الرسمي اللبناني ومرونة حزب الله الطارئة في معالجة أزمة الاعتداء عن ضعف قدرات الطرفين في ردّ الضغوط الدولية بصدد الحادث. ويعود ذلك إلى الانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه البلد، وحاجة لبنان إلى دعم شركائه الدوليين، وعدم جهوزية حزب الله للصدام مع المجتمع الدولي، لاسيما الاتحاد الأوروبي الذي ينتمي الجندي القتيل إلى أحد بلدانه، ناهيك من سعي إيران من وراء الحزب إلى تلافي صدام إيراني أوروبي متزامن مع أزمة إيران الداخلية واحتمالات العودة إلى المفاوضات النووية في فيينا. وسواء في التهدئة مع اليونيفيل أو في الصدام مع هذه القوات، فإن الحزب أكد مُجدداً التزامه بأجندة طهران وحاجاتها الجيوستراتيجية.

– تكشف المعالجة المتعددة الأطراف التي تقاطعت داخلها مواقف لبنان الرسمي، وقوات اليونيفيل، وحزب الله عن حرص على تجنُّب تصعيد الوضع الداخلي، ومُفاقمة أزمة لبنان السياسية والاقتصادية، وعدم الدفع إلى ما من شأنه أن يؤدي إلى انهيار شامل. وقد كشفت تخريجة التحقيقات، وتسليم أحد المطلوبين، وتواصل الحزب مع اليونيفيل، وتوقف الأطراف الخارجية المؤثرة عن المطالبة بتحقيق دولي، عن أعراض التسوية وأبعادها.

استنتاجات

استطاع حزب الله تجنُّب الصدام مع المجتمع الدولي إثر حادث مقتل جندي إيرلندي تابع لقوات اليونيفيل في لبنان. وأظهر الحزب براغماتية في التعامل مع الحدث، سواء في قبول تصريحات وزير الداخلية اللبنانية الملمّحة إلى مسؤولية الحزب من جهة، أو من خلال المسارعة بتقديم العزاء لقوات اليونيفيل والتراجع عن تبرئة “الأهالي” والذهاب إلى تسليم أحد المتهمين، من جهة ثانية.

من ناحيتها، أظهرت الحكومة اللبنانية ممثلة برئيسها ووزير الداخلية وقائد الجيش استجابة مناسبة، عبر مسارعتها في التحرك صوب مقر اليونيفيل في الناقورة في جنوب لبنان، وملاقاة المطالب الدولية والأممية بإجراء تحقيق شفاف، وعدم المصادقة على رواية حزب الله وأخذ مسافة رسمية منها.

وعلى الرغم من تقاطع مصالح اليونيفيل ولبنان وحزب الله لتجاوز الأزمة وإيجاد مخارج مقبولة لجميع الأطراف، فإنّ الحادث فضح وجود بيئة معادية لليونيفيل داخل جمهور حزب الله، بفعل التحريض الذي مارسته قيادات الحزب ضد التعديل الذي أقرَّه مجلس الأمن مؤخراً، والذي يمنح اليونيفيل مزيداً من الحرية والصلاحيات في عملها داخل الأراضي اللبنانية. 

ومن الواضح أخيراً، أن الظروف السياسية والاقتصادية السيئة التي يعاني منها لبنان التقت مع تعقُّد الظروف الإقليمية والدولية، على نحوٍ جنَّب البلد تصعيداً دولياً في أزمة مقتل جندي اليونيفيل ودفع باتجاه تسويات قانونية سياسية لإقفال ملف الحادثة.

السابق
إيران وفرملة التّقارب التّركي – الأسدي
التالي
علي الأمين يُفجّر قنبلة من العيار الثقيل: باسيل تحت خطر الاغتيال.. وهذه فاتورة ادارة ظهره لـ«حزب الله»