
التغيير في لبنان يحتاج أولا الى قاطرة سياسية تقوده، ويحتاج ثانيا الى جدول اعمال وطني يحدد مطالب ومهمات يمكن انجازها، وثورة ١٧ تشرين لكي تكون امينة لقيمها ومنطلقاتها عليها، ثالثا أن تستولد كتلة تاريخية عابرة للطوائف والمناطق والانقسامات الغابرة التاريخية، منذ عهد القائم مقاميتين وحتى ليل البارحة…
التغيير تتاكد ضروراته اولا، من فشل المنظومة بتقديم اية حلول، وفي نيتها الاستمرار في السلطة رغم ذلك، دون خجل، وتتبدى ثانيا في تفاقم تحلل الدولة ووظائفها وخدماتها وتعطيل كل مرافقها، وتترسخ ثالثا في استحالة بقاء لبنان وطنا لأهله اذا لم يحدث التغيير وتسقط المنظومة…
ويتكشف يوما بعد يوم وجود قناعة، اصبحت غالبة لدى الدول العربية والاقليمية والدولية، ان الحفاظ على لبنان ودوره وهويته، واستعادة العافية والإزدهار لاقتصاده، يتطلب ترحيل طبقته السياسية والامنية والبيروقراطية والمصرفية، وتحرير شعبه من قبضة زعماء احزابه الطائفية.
وباختصار شديد، فقد قام الناس في لبنان بكل ما بوسعهم القيام به خدمة للتغيير، واستجابة لفعاليات ثورية شاركوا بها، من التظاهر الى اعلان الغضب، الى التنكر لزعماء احزابهم وطوائفهم، الى ملء الساحات بآلاف المتظاهرين، وتعبئة صناديق الاقتراع بآلاف الاصوات العقابية، فأوصلوا الى مجلس النواب اكثر من ربع عديده، ممن اعلنوا انحيازهم للثورة، او انشقوا عن السلطة، وانكروا الانتماء للمنظومة ونهجها. وقد كان هذا التيار وطنيا شاملا وعابرا لكل انقسام مناطقي او طائفي.
ولعله حان الوقت لكي يتم الفصل في لحظة المراجعة والتقييم، بين فعل الناس وعظمة تضحياتهم وكرم مساعداتهم من جهة اولى، وبين ارباك وعجز القوى المنظمة الطليعية واعمال النخب ومبادراتهم، من جهة ثانية، هذه النخب التي تولت ادارة معركة التغيير، ووضع اجندتها وترتيب معاركها وتحالفاتها وتحركاتها…
حان الوقت لكي يتم الفصل في لحظة المراجعة والتقييم بين فعل الناس وعظمة تضحياتهم وكرم مساعداتهم من جهة اولى وبين ارباك وعجز القوى المنظمة الطليعية واعمال النخب ومبادراتهم
ولذلك لم يعد مقبولا ان تقوم هذه النخب، بما في ذلك نواب التغيير ونواب ١٧ تشرين، حين تجري المطالبة لهم، بكشف عن انجازاتهم المتحققة في معركة التغيير، بان يتحفوننا بمطالعات للإشادة بحركة جماهير الانتفاضة، وشجاعة الناشطين والناشطات في خوض مواجهتها، وفداحة التضحيات التي قدمها المئات من الثوار واحرارها، او أن يشرحوا ويفصلوا مسالب المنظومة وشرورها وجرائمها، فنقاش التغيير واشكالاته، لم يعد مجديا بأن يطال المجالات الآنفة الذكر، بل يتحدد حصرا، بالاجابة عن ما فعلته النخب والطلائع والخبراء، لا عن ما فعله الناس والمناضلون والنشطاء…
لذلك فما هو مطلوب منهم اجابات واضحة في مسائل واضحة؛
ماذا فعلوا من اجل خلق قاطرة سياسية تكون اداة للتغيير وقوة للدفع في انجازه، وشرط قيامها اولا سيادة خطابها، في المجال العام في الاعلام الوطني وندوات النقاش، والحوارات الوطنية، وانصات عموم الناس لطروحاتها وسردياتها، وهو امر ظل سائدا ومسيطرا على مدي ٣٠ شهرا من عمر الانتفاضة، فمن المسؤول عن فقدان الانتفاضة صدارة المجال العام والتفوق الأخلاقي لقضية الثورة؟!
اما الشرط الثاني، فهو خوض الاستحقاقات الدستورية والنجاح بها، وهو امر يضيف الى شرعية الانتفاضة الثورية، شرعية قانونية وتمثيلية، وهو امر تحقق نسبيا في حجم التأييد للوائح الانتفاضة، كما تحقق بإمكانية قيام “اطار تنسيق نيابي”، يمكن ان يضم كل من انحاز ل ثورة ١٧ تشرين، ويمكن ان يجمع اكثر من ٢٧ نائبا لبنانيا، وهو اطار مازال ممكنا اقامته لتاريخه، و ظن المرجح ان الامتناع عن اقامته، يشكل ضررا فادحا لعملية التغيير برمتها، لأنه اذا ما تحقق، سيخلق وزنا نيابيا صالحا لممارسة دور القاطرة، التي تحدد ماذا تريد، وتترك للآخرين ان يستجيبوا او يواجهوا…
واكثر ما يعيق قيام اطار التنسيق هذا، هو استمرار النزعة الانشقاقية والعبثية اليسارية، وعدم قدرة احزاب كثيرة على تجاوز اثار الحرب الاهلية وتصنيفاتها، واستدامة انقسامات ٨ و١٤ آذار واعتباراتها، كما عدم وجود وعي داخل أغلب قوى الانتفاضة لأهمية سلوك نهج الوحدة والتلاقي، وعدم ادراك ضرورة توسيع جبهة الأصدقاء، والحاجة لتفكيك جبهة الخصم ولتحييد بعض قواه، وبتعبير اخر، ان عدم معرفة واجادة فن ارتقاء الصراع ومراكمته، وتطويره ودفعه قدما الى مراحل جديدة، حرم الانتفاضة من امساكها بزمام المبادرة، وحولها من موقع متقدم يهاجم المنظومة ويضعفها، الى موقع يترنح تحت ضربات قوى الثورة المضادة، او يتلطى خلف مواقف ارتجالية ملتبسة ومتقلبة…
إقرأ ايضاً: حارث سليمان يكتب لـ«جنوبية»: التغيير في لبنان بين المنتظر والمرجأ
ولعل ما سهل وساهم في ارباك قوى التغيير ومراوحتها، هي عدم صياغتها لأجندة مطالب واهداف عامة، تجعل منها “جدول اعمال وطني”، يطبع الحياة السياسية ويلزم الاطراف الحزبية والكتل النيابية بان تتحرك سلبا او ايجابا انطلاقا من هذه الاجندة، وتفاعلا معها، ولقد كان ضيق افق وبلادة من تصدوا
لهذه المهمة من قوى التغيير سببا اضافيا لإضاعة فرص ومناسبات غالية، كانت يمكن ان تكون مجالا لإنجازات هامة ومفصلية.
إمكانية قيام “اطار تنسيق نيابي” يمكن ان يضم كل من انحاز ل ثورة ١٧ تشرين ويمكن ان يجمع اكثر من ٢٧ نائبا لبنانيا وهو اطار مازال ممكنا اقامته لتاريخه
وتتلخص اجندة التغيير المطلوبة، والتي يمكن ان تتحول الى جدول اعمال وطني، توجه المشهد السياسي وتحدد اطاره، بثلاثة قضايا رئيسه. يضاف اليها موقف عملي دائم، واما القضايا فهي؛
استعادة الدولة لسيادتها ولوظائفها الحصرية، في احتكار استعمال العنف والقوة تحت سقف القانون، وفي ممارسة واجبها في الدفاع الوطني والامن والسياسة الخارجية، والجباية المالية والجمركية، وتنظيم حركة انتقال الافراد والاموال والسلع والرساميل عبر الحدود والمعابر.
استتباب مبدأ المحاسبة والمساءلة وسيادة القانون، والاحتكام للدستور عبر قيام سلطة قضائية مستقلة، تحقق العدالة وتصدر الاحكام بتجرد وسرعة مقبولة.
استتباب مبدأ المحاسبة والمساءلة وسيادة القانون والاحتكام للدستور عبر قيام سلطة قضائية مستقلة تحقق العدالة وتصدر الاحكام بتجرد وسرعة مقبولة
معالجة الانهيار المالي والاقتصادي، واعادة العافية للاقتصاد اللبناني، وتوزيع الخسائر الناجمة عن الازمة بشكل عادل والحفاظ على حقوق المودعين وانصاف اصحاب الاجور والعاملين.
الاجندة هذه كانت ممكنة وما زالت ممكنة، وهي شاملة يمكن ان يتفرع منها ويندرج في سياقها، عشرات المبادرات والملفات التفصيلية، فضلا عن ذلك، هي صالحة لتكون قاسما مشتركا بين كل من ايد او انحاز الى ثورة ١٧ تشرين، بل قد تستقطب كل نقطة منها قوى اخرى جديدة اضافة لقوى ١٧ تشرين، ففقرة استعادة الدولة ستجذب قوى سيادية تتقاطع مع قوى التغيير جزئيا، أما فقرة التصحيح المالي فقد تجتذب قوى اخرى موجودة على يسار قوى التغيير، فيما تجتذب فقرة العدالة قوى ثالثة، وستمكن هذه الاستراتيجة بادارة ملفات متعددة، مع تفاهمات جزئية موضعية في كل ملف من التقدم وانجاز خطوات تغييرية ملموسة.
أما الموقف العملي، الدائم فهو رفض التمديد او التجديد، او استدامة اي موقع سياسي او اداري، يعود لجماعة المنظومة بكل اطرافها، ومقاطعة اية الية تساهم بذلك، والتزام موقف معلن بالسعي لترحيل السلطة بكل اطرافها حيث امكن، بما في ذلك الاصرار على تأليف حكومة مستقلة، لا تسمي وزراءها احزاب المنظومة.
وبرغم وضوح وبساطة ما تقدم، فان قوى التغيير الاساسية تذهب للاهتمام وصرف الجهود على قضايا اخرى، قد تكون مشروعة ومطلوبة، ويمكن تصنيفها بثلاثة فئات اساسية؛
الاولى الاهتمام ببناء احزاب جديدة وتنظيمات، تتولى بعد تصليب عودها سياسيا وبرنامجيا قيادة معركة التغيير.
الثانية الانكباب في العمل التقليدي النيابي، الذي يهتم باعمال التشريع والمراقبة والمتابعة البرلمانية، لملفات السياسات العامة واعمال الحكومة وادائها.
الثالثة متابعة مراجعات المواطنين وتامين بعض خدماتهم، وتسهيل معاملاتهم وتأمين بعض المساعدات الاغاثية او التعليمية او الصحية الي يحتاجون اليها.
ومن نافل القول ان هذه الجهود جميعا، على اهميتها ومشروعيتها وفائدتها النسبية تارة، والموضعية تارة أخرى، لا تخدم معركة التغيير بشكل فوري، ولا تواجه المنظومة الحاكمة، وتفرض عليها تنازلات مباشرة، ولا تراكم انجازات وتمارس المناوشة والاشتباك مع السلطة، لتعديل موازين القوى وتفكيك المنظومة واضعافها..
فبناء تنظيمات جديدة لقيادة التغيير امر جوهري، لكنه ليس ملحا وجني ثمار فوائده مؤجل ومتأخر، عن وتيرة المواجهة وخطورة الازمة، والاجندة هذه، ( بناء تنظيظات جديدة) تنقل التنافس والمواجهة، من خط تماس بين الناس وقوى التغيير من جهة، واطراف المنظومة من جهة اخرى، الى خط تماس بين قوى التغيير واحزاب التغيير ذاتها، حول استقطاب الناشطين والمناصرين، وتنقل السجال السياسي من سجال يفند ارتكابات المنظومة الى سجال بين احزاب الانتفاضة، حول صحة ادبياتها وخياراتها، اما الاكتفاء بالعمل البرلماني والرقابة على الحكومة، فليس خروجا عن هامش تتيحه المنظومة نفسها، وتمارسه بين اطرافها، لحظة انفجار خلافات المحاصصة فيما بين اطرافها.
منافسة نواب المنظومة على الخدمات الشخصية مهمة محكومة سلفا نتائجها، لغير صالح نواب التغيير لان نواب المنظومة اكثر قدرة واكثر سطوة على مفاصل الدولة ومرافقها
اما المهمة الثالثة، وهي منافسة نواب المنظومة على الخدمات الشخصية، او تسهيل تسيير بعض الخدمات العامة، فهي مهمة محكومة سلفا نتائجها، لغير صالح نواب التغيير، لان نواب المنظومة اكثر قدرة واكثر سطوة على مفاصل الدولة ومرافقها، ومفاتيح الادارات والمؤسسات العامة بيدها ولاء وتاريخا، بما يجعل التنافس معهم امرامحكوما سلفا بالخسارة.
نواب التغيير لم ينتخبوا اعجابا بأشخاصهم، دون الاستخفاف بكفاءاتهم، ولم ينتخبوا ولاء لاحزابهم او تنظيماتهم، ولم يتم اختيارهم لانهم اكثر قربا للناس ممن خاضوا المعارك في وجوهم، نواب التغيير انتخبوا لمهمة صعبة وجليلة هي تغيير المنظومة وترحيلها، ووقف ارتكاباتها وجرائمها واستعادة التعافي الاقتصادي والمالي، وسيادة القانون والدستور ووظائف الدولة كافة واحقاق العدالة، واستتباب نظام المساءلة السياسية والمالية… والنجاح في هذه المهمة فقط هو معيار استمرارهم، او ونجاحهم وتجديد الثقة بهم او باحزابهم، والا سيجري تصنيفهم في باب الفرص الضائعة والخيبات المضافة.