الشاعرة ليلى عساف تستحضر عبر «جنوبية» مدينتها صيدا.. «قولاً وقالباً»!

الشاعرة ليلى عساف

ثمة مشهدية مفتوحة على تنوعات المعنى والشكل في تلاوة الشاعرة ليلى عساف لمدينتها (قولاً وقالباً) صيدا عاصمة الجنوب .
“مشهد مدينة صارمة السحر” -تقول ليلى- “لذلك كتبتها ورسمتها ولوّنتها،كانت المدينه تفيق كل صباح بحياتها المعتاده،تتمطى بألف ذراع ساعه يقتحمها الضوء بوحولها المهووسه بالجري..
يكفي ان تفتح نوافذها ليعلو الكلام وتصحو النميمه احيانا كثيره .واذ يهبط أهلوها في كل اتجاه يحملون حزم نبضهم وينزلون أدراج منازلهم. متقوسون فوق شباكهم أو منهمكون في زرع بضائعهم على عتبات الدكاكين وعلى حافه الحارات التي تعددت اسماؤها(طل وارجع، فرن الساحه، باب السراي،المصلبيه، حاره البحر،سوق الحياكين، حارة اليهود، زقزوق حمص، حي رجال الاربعين، حي الشارع، سوق النجارين).هذا اللب الرطب للأزقه خلاصه احزان ساكنيها وفرحهم. تلك الزواريب عروق المدينه، نبضها في ارتجافاته المستمره.نسلكها بايقاعات تختلف في اعماقنا،تتخثر في صورنا بالابيض والاسود.”
وتضيف الشاعرة، مُنتشية بوصف ذاكرة المدينة :”ليل تلك الزواريب يلتف حول بيوت تنتحل ملامح باهته لأناس رحلوا عنها،كلما خطونا ندوسهم وقد تغلغلوا في عروق الارض أو الذين يؤخرهم الموت الى حين.
جدران سميكه وحجاره رمليه تخفي عذابات كثيره. وطيب قلوب ساكنيها. فيما مضى كان القرميد الاحمر يعلو بعض السطوح كوردة متطاولة،تظللنا ولا تفيض الا بالبرتقالي المحمر،فيما عناقيد الحجاره الرمليه تفقس افراخ وحشتها في بوابات (بوابه الفوقا وبوابه التحتا أوالشاكريه،تجري مهلله للقادمين إليها من كل الضواحي وكل النواحي.
مئات السنين مرت على غمغمه حجارتها الرمليه التي لا تأتلف الا مع أسراب ظلال معسكره على حافه الزارويب وكانت ألسنتها الطويله تفتح أثلاماً في وجوه ساكنيها.”
وتزداد الذاكرة صفاء بما تسرده الشاعرة:” افتح يدي للأبخرة في مقهى “الاجاز – زجاج” (حي باب السراي) الحكواتي، كان هناك في احدى الليالي يروي جزأ من سيره عنترة وعبله او سيرة الظاهر بيبرس وقصص ألف ليله وليله،يروي جزأ من القصه، الجمهور يرتاب، يهتاج بتفاصيل القصه التي كانت تبدأ ب(يا ساده يا كرام والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيد الأنام، كان يا مكان في قديم الزمان وكانت الحكايه تفرم عتمه ليالي الشتاء البارده”.
أما مشهدية المدرسة والتعليم في المدينة ، ترويها عساف ل”جنوببة” بأريحية بما فاض من الذاكرة، وتقول:
“ثانويه صيدا الرسميه للبنات.
ثانويه حكمت الصباغ.
البدايه هكذا هناك كراسي مازلت اسمع جرجرتها داخل غرفه تشير شبابيكها الى زمن خاص يقرع فيه جرس يؤكد وجودنا داخله.مريول أزرق ،ملعب، مختبر، مسرح، سلالم، كراسي وطاولات تكدست لتبني افقاً لم يكن ملكاً للسماء وحدها كان لنا ذكرى تخرج من شقوق مهما ردمناها تفور دون موعد.


كثيراً ما كنا نبدأ نهارنا بمنقوشه زعتر تعلوها مثلثات ومتوازي اضلاع وفي أسفلها حامض النيتريك ومعارك هولاكو … يتبعها معادله فيزيائيه حيث التفوه بكلمه خلال شرح الدرس يعني جريمه . أية ثرثره كانك اجتزت نهارك بالمقلوب. الملعب ينبهنا أن لا جدار حيث للحريه حكمتها الخاصه كما للمطر المتساقط فوقنا في خيوط مستقيمه لغه لا نفقهها الا حين نلتحم مع بعضنا طلبا للدفء.
الامكنه التي احببناها هي البراءه الوحيده. اصواتنا صرخاتنا في تردادها زمن كان كافيا لاشعال ضجيج البحر المحيط بنا. خلف سور الباطون اشجار رابضه وراء بوابة حديدية متشابكة اضلاعها كدانتيلا احاسيسنا..”
وتجهش الشاعرة بذاكرتها :”حين كنا نقف في حضره الناظر القادم من اخر سلالة المتجهمين. بعينيه يحمل اكثر السكاكين صلابة يجعلنا نشعر اننا فريسة محتملة. لا لأي خطأ ولا لأي تأخر عن الطابور الصباحي أو أي غياب دون عذر.. عكس أستاذ الرسم الذي كان ينظر الينا بعين يدهشها الجمال تنبهنا ان الحياه اقصر من قيلولة بعد الظهر…
لكل انسان ظله على الارض وكل ما وصل اليه الانسان انما نما شيئا فشيئا .هذا ما كان يؤكده لنا دوماً استاذ الجغرافيا خاتماً الدرس بقوله ان العالم سينتهي بكبسه زر. اما استاذ الرياضيات فالطريق عنده طويل ولا تكون الانصاف متساوية دوماً لكنك لن تصل فارغا ولتكتشف حل المسأله بهدوء.
النشيد الوطني يعلو مرفرفا فوق رؤوسنا نشعر ان الوطن سلة فواكه في يدنا،نحن العناصر المختلفه التي تصنع في نسيجها مدرسة وطناً نعشقه. الطمانينه يحملها من يعلوه راس فارغ. السلام نجده في عيون القطط الغافيه عند حافة الطريق. نسير القهقرى،لقد ضاق الوطن حتى ان شجره الزنزلخت الباقيه من اخر بستان جرف تكاد تنفجر بالبكاء.
الحياه تقببنا او تقعرنا وتبقى اجمل العلاقات هي التي ننسجها على مقاعد الدراسه البراءة الوحيده حيث لا بيع ولا شراء.
حياه تركناها ملقاة هناك خلف رصيف البحر في حي الست نفيسه وسط تجمع مدارس ودكاكين وانفاس لاهثه وراء لقمه عيشها.
انها الحرب مررت اصابعها ضاغطه فوق عيوننا لنصحو باكرا. الحرب هذه اللعبه التي لا تشبه بشيء المزحه التي كنا نقوم بها عاده نحن المراهقات.
لا مكان للخطوط المتعرجه داخل الثانويه وذلك بفضل المديره وادارتها الدكتوره الناقده الاديبه حكمت الصباغ هدفها بناء العلم والثقافه داخل اجيال المستقبل بالاضافه اولا الى زرع الوطنيه الحقه داخل ابنائها. اكملت مسيرتها السيده مهى لطفي. لقد فعلت الكثير والكثير كنا نصغي لها اكثر واكثر. كنا ذلك الطين في انتظار التشكيل. سوف يجف ويصبح فخارا صلبا ويبقر البحر مستلقيا ثملا امام قلعه كعادتها لا يمكنها التحليق.
كان يدهشنا باقواله نصغي لصوته الرخيم:نولد بعد كل شروق. الحياه بسيطه لا تحتاج كل هذه الزخرفه. المحاربون يقاتلون والحب يؤمن بالذوبان. انه الشاعر (الراحل)حسن عبدالله . كان هناك كوكبه من الشعراء اساتذه اللغه العربيه: عباس بيضون حمزه عبود محمد فرحات محمد علي مقلد التقينا هناك قبل دخول الجوال والكمبيوتر الى عالمنا.
لطالما احببت الجلوس في المقعد الامامي لاشاهد ولادة اولى الكلمات واتنفس رذاذ قصائدهم.


ثانويه البنات فسيفساء متجانسه ياتون اليها من كل النواحي من ضواحي صيدا من جباع جزين مغدوشه الرميله الجيه والمعمريه وغيرها من القرى. من كل الفئات الاجتماعيه ،من كل الطوائف. خليط انفاس وعقول وسط عالم دفء علم واشراقه جمال ثقافه وحريه. تماما مثل وطن ذات رئيس جيش وابناء.في خضم النشاطات الاجتماعيه والروابط الطلابيه وزحمه اللهب والتظاهرات التي ترفع شعار وطن افضل ماتت فاطمه التلميذه التي كنا نشبهها بالسردينه جراء القصف الاسرائيلي على قريتها. اما مليكه اخر تلميذه يهوديه هربت مع اهلها في زورق مطاطي ليلا اول ايام الاجتياح الاسرائيلي. اغتيل استاذ الفلسفه حسن حمدان الفيلسوف الملقب مهدي عامل كنا نشبهه بكاسترو بضحكته وذقنه وشاربه. مات جوزيف عبود اخر ما قاله لنا ان الحقيقه فينا وليست في ما نتقاسمه من امور الحياه.ما قد مضى هو لاشئء الان. البراءه الوحيده هي حين نلتحم. تلك الشمس باستطاعتها ان تدخل من ثقب صغير فلا حاجة للصخب.
الموتى عندما اذكرهم ياتيني حفيف شجره السرو في سباق مع الريح فامتليء بالحنين حتى الحافه.. وجه فاطمة يتلاشى يختفي يعانق النور فاطمه غندور معلمه ماده الفلسفه كانت لنا اما حنونا وملجا وبقيت كذلك حتى اخر يوم في حياتها. ماتت الناظره نزهه والناظرة ندى .والمراه الطيبه حُسن عامله النظافه. الموتى نخاطبهم دون امل في الرد. الايام تتعفن ربما. من يخلصنا من سواد سحابة تربض فوق رؤوسنا. نقع ثم ننهض لتبقى كلمات مكتوبه بالطبشور الابيض فوق اللوح الاسود ترسم خارطه وطن جريح نعشقه.
خرجنا يومها في طوابير الى ساحه النجمه وسط المدينه لننضم الى التظاهره التي جمعت كل طلاب المدارس والعمال ومختلف الفئات.نصرخ باعلى صوتنا: ٤ بيضات بليره واللحمه ب١٢٠. توجهوا جميعهم بلا فتاتهم وهتافاتهم بحر يتوثب في صدورهم.
خرجنا من وراء سور الباطون يملؤنا ما يشبه حديده المتشابك. بحر يسابقنا والوطن امامنا شيء طائر كالعصفور.”

السابق
هل «يثور» القضاء قبل لجوء اللبنانيين الى «محاكم عرفية»؟!
التالي
طاقة شمسية بـ 4 دولار فقط؟!