
و من هذا المنطلق، يمكن القول أن الفرد يستميت في إيجاد هوية تحفظ كيانه و وجوده. و إذا ما قاربنا مسألة الهوية، من زاوية نفسية، فإننا نوجزها في عبارة : ” لا فصل بين الهوية و الأنا” .
بالنسبة إلى المونديال، فإنه لا ينحصر في كونه مباراة بكرة القدم على مستوى عالميّ، تتبارى خلاله فرق بهدف الحصول على “كأس ذهبية” ترفع من شأن البلد الفائز، و إنما يجسّد حالة تتجاوز حدود الرياضة، لتنسحب على مسألة انتماء، يسعى إليه كلّ متعطّش للإنتساب إلى دولة قوية قادرة على حمايته، ولو معنوياً.
عندما تحصل الخسارة تكون على مستوى جماعيّ فتخفّ وطأة انعكاسها السلبيّ على كلّ منهم و تأتي المواساة الجماعية في هذه الحال لتعزّز الانتماء إلى جماعة “افتراضية”
و إذا ما تناولنا الفرق بين الانتماء الفعليّ و الانتماء الافتراضي، لوجدنا أنه في الثاني، تؤدّي حرية الفرد دورها في مقاربته. بمعنى أنه يحصل بشكل حرّ. و ليست حرية الإنتماء سوى ما يطمح إليها كلّ فرد أو كل شعب، إما لاختيار مكان أو دولة قوية وحاضنة و قادرة، على مدّه بكلّ ما يلزم للحصول على عيش كريم و شعور بأمان، و إما لأن الحرية بحدّ ذاتها تشكّل غاية كلّ فرد باعتبارها سمة خاصة بالإنسانية، وفقدانها يترجم نقصاً و تشييئاً له.
ولا ننسى، أيضاً، أن تشجيع أي ّ فريق يجمع مشجّعيه ضد “خصم” مشترك. فنراه يعيش نصراً مشتركاً عند فوزه. وعندما تحصل الخسارة، تكون على مستوى جماعيّ، فتخفّ وطأة انعكاسها السلبيّ على كلّ منهم. و تأتي المواساة الجماعية ، في هذه الحال، لتعزّز الانتماء إلى جماعة “افتراضية”، حتى و إن جمعت بين أفرادها الكثير من الفروقات و الاختلافات والخلافات الاجتماعية و السياسية. وكأن المباراة تأتي لتخطّ هدنة مؤقتة.
إقرأ أيضاً: خاص «جنوبية»: «حملات» ضد فساد الإدارات..«تمرد» موظفين و تفشي «الرشى الخيالية» عبر سماسرة الميلشيات!
وممّا لا شك فيه أن كل هذا يذكّر بما يحدث للشعب الواحد، عندما ينتصر أو يُهزم . كما تظهر “عدوى”، إن جاز التعبير، على مستوى مواقف المشجّعين، تجاه فريقهم أو الفريق الآخر “الخصم”. فنراهم يطلقون، جماعياً، الموقف عينه. و يكون الفوز “فوزاً معاً” و الخسارة “خسارة معاً”.
وبالعودة إلى الشعب اللبناني الذي يعيش تحت وطأة حزمة من الأزمات التي تهدّد مستقبله و حياته، يأتي التشجيع لفرق المونديال ليمكّنه من تفريغ شحنة انفعالية كدِرة و مشحونة بالغضب عبر الهتافات، على سبيل المثال، و تشكيل مواكب سيّارة …وغيرها من الوسائل التي تساعده على التعبير عن انفعالاته. وتشكّل كل هذه المظاهر فرصة أو “أوالية” لتمويه أو لارجاء التفكير في الأوضاع المأساوية التي يعيشها.
الشعب اللبناني الذي يعيش تحت وطأة حزمة من الأزمات التي تهدّد مستقبله و حياته يأتي التشجيع لفرق المونديال ليمكّنه من تفريغ شحنة انفعالية كدِرة و مشحونة بالغضب عبر الهتافات
و لا ننسى أنه في أي دولة، عندما يعاني شعبها و يكابد من أجل الحصول على أدنى مقوّمات العيش، فإنه يفقد الشعور القوي بالانتماء إليها، و يتهاوى التمسّك بمواطنيّته. لذلك يأتي المونديال ليؤمّن نوعاً من التعويض الذي ينسحب على ذاته، لأنه لا مكان للفصل معنوياً و رمزياً، بين ضعف الفرد نفسه و ضعف دولته.
لكن في المقابل، أيضاً، و بالرغم من كلّ ما تمّ عرضه أعلاه، أتى المونديال ليبيّن عند الشعب اللبناني انتماءًا لا يقلّ أهمية عن الانتماء الوطني، ويتمثّل في الانتماء العربي. ففي كلّ مرة، كانت تلعب فيها دولة عربية، انعكس موقفا موحّداً لدى مشجّعي كل الفرق الأخرى ، وتمثّل في الالتفاف حول الفريق العربي و تمنّي فوزه حتى لو كان على حساب الفريق المفضّل. مما لا شكّ أن هذا الجانب، أظهر مدى تمسّك الشعب اللبناني بهويته العربية. و هذا ، بالتأكيد، دليل على وفائه لعروبته.
تعدّ مسألة الانتماء مسألة كونية، وهي شكّلت أرضية أساسية بُنيَ عليها التاريخ، باعتبارها تؤدّي دوراً في الحفاظ على الهوية و تماسكها. وقد برزت إشكالية الانتماء، مع تراتبية تمّ فرضها من قبل المجتمعات، فجعل منها محوراً يضمن تماسكه.
وبالعودة إلى المونديال، فإنه يمكن القول أن المشجع اللبنانيّ يعيش، بشكل دوريّ، تجربة تمكّنه من التعويض عن انتماء لوطن، أصبحت هويته تعاني الأمرين على مستويَين، الشعور بالمواطنة و العيش الكريم، نتيجة فقدانه الأمل في دولة قوية. والجدير بالإهتمام أنه أضحى يتماهى من خلال تشجيعه لفرق دول قوية، حتى و إن كانت ضعيفة اقتصادياً أيضاً، إلا أنها قوية في كرة القدم!
وأتت مظاهر التشجيع لتوضّح، أكثر فأكثر، هذا التماهي، و تترجمه على مستوى الأعلام أو الأغاني … و كل ما هنالك من وسائل، تأتي لتؤكد على هذا الانتماء الافتراضي وتجذّره.
و من الملاحظ أيضاً، أن “البوستات” المليئة بالسخرية و أحياناً بالإسفاف، جاءت لتترجم هشاشة في “الروح الرياضية”، ممّا يعكس مسألة دقيقة، و تتجلّى في ضعف قيم بات المجتمع اللبناني بأمسّ الحاجة إليها و هي احترام الاختلاف. لسنا هنا في صدد اطلاق أحكام و التعميم، و إنما الكشف عن مسألة جوهرية، تكمن في ضعف ثقافة الانتماء والمواطنة نفسها، التي أنتجتها دولة عاجزة في نفوس مواطنيها، فأطلقت لدى مواطنيها ثقافة استجداء انتماء، وصل بها الأمر إلى أن تكون افتراضية. بمعنى آخر، فإنهم يختبرون “صراعاً” ضمنياً و كامناً، بين هويتهم الوطنية و هوية أخرى.
الفرد يستميت في إيجاد هوية تحفظ كيانه و وجوده و إذا ما قاربنا مسألة الهوية من زاوية نفسية فإننا نوجزها في عبارة : ” لا فصل بين الهوية و الأنا”
في النهاية، ومما لا شكّ فيه، يبقى التشجيع لفرق المونديال ثقافة رياضية، سيّما في حال تمّ التعبير عنها بوسائل حضارية تعكس رقيّ المشجّعين و المجتمع.
وخلاصة القول، لا بديل عن دولة قوية تمدّ شعبها بهوية وطنية قوية، من خلال تجذّر الشعور بالمواطنية على مستوى المفاعيل و الممارسة.