السلطة والشعب.. بين التواطؤ و«الحكم الإلهي»!

تتبدّى حاجة كلّ شعب إلى سلطة ضرورةً باعتبارها تمثّل "الشرعية" في إدارة أموره و ضبط حياته على المستويات كافة: الإقتصادي، و الإجتماعيّ، و التربويّ، والقانونيّ، وحتى السياسيّ،.. بالإضافة إلى تنظيم العلاقات بين الأفراد، و بينهم و بين المؤسسات.



قدّم سيغموند فرويد مقاربة تحليلية لهذه الحاجة، عندما اعتبر أن الأفراد يتنازلون عن الكثير من نزواتهم أو رغباتهم بهدف العيش في حضارة. وكأنهم يقايضون جزءاً من سعادتهم مقابل الحصول على حياة مستقرة في مجتمع تضبطه سلطة.
وتأتي نظرية جان جاك روسو حول العقد الإجتماعي، التي تنصّ على أن يتنازل كلّ فرد عن جزء من حقوقه لصالح المجموع، لتؤكّد هذه الحاجة “المصيرية” إلى العيش في كنف سلطة باعتبارها تحمي حقوقه.

تجيز السلطة لنفسها الحق في التحكّم بشعبها و أحياناً كثيرة في قمعه بما يتناسب مع مصلحتها في الحفاظ على تماسكها و تعزيز هويتها الإيديولوجية


لذلك يمكن القول، أن الأفراد يسهمون في الحفاظ على تماسك السلطة التي يحتاجونها و تأمين استمراريتها. ومن هذا المنطلق، تجيز السلطة لنفسها الحق في التحكّم بشعبها، و أحياناً كثيرة في قمعه، بما يتناسب مع مصلحتها في الحفاظ على تماسكها و تعزيز هويتها الإيديولوجية. و تعمد إلى استغلال تبعية شعبها لها لتحمي “نرجسيتها”.
ولسنا هنا في صدد تناول مفهوم النرجسية، لكن يجب الإشارة إلى أنه لم يعد ينحصر في الحياة النفسية فحسب، بل بدأ ينسحب على نواحٍ أخرى من الحياة و أبرزها السياسيّة، حتى بتنا نسمع بنرجسية الإيديولوجيا أو السلطة. و قد يعود السبب في ذلك إلى وجود تلك العلاقة المباشرة بين السلطة وشعبها. إذ تسعى الأولى إلى توظيفها بما يخدم مصلحتها. وقد يستغّل الشعب، أيضاً، حاجة السلطة إليه للوصول إلى مآربه. و كأن هناك عملية “تواطؤ” خفيّ متبادل أو تبادلية خفيّة في المنفعة.

مع مرور الوقت تصل الأمور إلى مكان، حيث تصبح السلطة منبوذة من الشعب الذي يلجأ إلى الوسائل المتاحة لتمكين نفسه من التفلّت منها


إلا أنه ، ومع مرور الوقت، تصل الأمور إلى مكان، حيث تصبح السلطة منبوذة من الشعب، الذي يلجأ إلى الوسائل المتاحة لتمكين نفسه من التفلّت منها، و يحاول إعادة تحصين إمكانياته و طاقاته بغية النجاة من هيمنتها.
و من الطبيعي أن تفقد السلطة احترام شعبها وولاءه لها عندما يشعر بأنه مستلَب، ويعي أنها استهلكت كلّ طاقاته وأنهكتها لتحافظ على وجودها. وفي هذه الحال، تأتي الفوضى لتنال من استقرار مؤسساتها، بالإضافة إلى أعمال شغب أو العصيان….
تؤدي القواعد والضوابط التي تضعها السلطة دور “الناطق الرسميّ باسمها”، ويأتي الالتزام بها من خلال السلوك و الأفعال ليترجمها عملانياً. ولا يمكن لهذه الترجمة العملانية أن تُنجَز إلا بجود قطبَي السلطة، الحاكم والمحكوم. وهنا، نستذكر أرسطو الذي يعتبر أن هناك من يخلق ليحكم، و هناك من يولد ليخضع. وكأن الطبيعة تأتي لتفرض هذا التقسيم، و”تُشكّل” الناس بين حكّام و خاضعين.

عندما نتحدث عن تقسيم طبيعي نتحدّث عن أنه من صنع الله، أي ما هو “إلهي” وهذا ما يتم توظيفه من قبل الكثيرين للقبض على السلطة، فيوهمون الناس بأن الله أوكل إليهم أن يحكموهم و ما عليهم إلا الخضوع لمشيئة الله


ومن البديهيّ أنه عندما نتحدث عن تقسيم طبيعي، نتحدّث عن أنه من صنع الله، أي ما هو “إلهي”. وهذا ما يتم توظيفه من قبل الكثيرين للقبض على السلطة، فيوهمون الناس بأن الله أوكل إليهم أن يحكموهم، و ما عليهم إلا الخضوع لمشيئة الله. ومن جانب آخر، تعمد السلطة إلى التلاعب و القيام بحساباتها الخاصة والقمع من أجل الحفاظ على تماسكها. لذلك من المستحيل أن تقبل بانهاء نفسها، إلا إذا ضمنت عودتها من جديد بالشكل الذي تراه هي مناسباً . لذلك”تساير” الشعب ، و تحتال عليه، و تستغلّ ضعف وعيه و عدم إدراكه للمواطنية وتسلّحه به، لتعيد إنتاج نفسها على مستوى “الجوهر”.
ويأتي التجديد ليطال الإسم و الشكل فقط. و إذا ما قاربنا تبعية الشعب للسلطة من زاوية سيكولوجية، تظهر أوالية التماهي “سيدة الموقف”. إذ يتماهى الشعب مع السلطة كما يتماهى الطفل مع أبيه. و يؤدي هذا الواقع إلى تشكيل أنا أعلى “جماعيّ”، نتيجة الرقابة المفروضة على الشعب، بهدف ضبط سلوكياته عبر إخضاعه للقواعد والحرص على الإلتزام بها. و يتشكّل الأنا الأعلى ، بحسب فرويد، نتيجة استدخال الموانع أو الضوابط التي يفرضها الوالدان على الطفل. و بذلك يؤدي دور قوة “رادعة” تجبر الطفل على أخذها في الحسبان في مراحل حياته اللاحقة. لذلك يمثل الأنا الأعلى قانوناً أخلاقياً يضبط حياة الفرد وعلاقاته و سلوكياته.
وعلى هذا النحو، يمكن القول أن السلطة تسهم في تشكيل بعض العمليات النفسية، التي تتمحور حول الرقابة نفسها على المستويَين الفرديّ و البَينفردي أي العلائقيّ.
بالنسبة إلى المستوى الفرديّ ، فإنه يتجلّى في مقاومة الفرد للرقابة نفسها و رفضها، أو استيعابها و الإلتزام بها….

لا تمثّل السلطة فقط المؤسسات و لا تتمثّل بها فحسب، بل تسهم في تشكيل بعض نواحي الحياة النفسية، لدى الأفراد الذين يعيشون في ظلّها


و أما فيما يتعلق بالمستوى البينفردي ، فإنه يكمن في مواجهة الأفراد لبعضهم البعض، أو على العكس تناغم وتجانس بين الفرد و الآخر و المجموعة…
خلاصة القول، لا تمثّل السلطة فقط المؤسسات و لا تتمثّل بها فحسب، بل تسهم في تشكيل بعض نواحي الحياة النفسية، لدى الأفراد الذين يعيشون في ظلّها، من خلال ضوابط و قواعد تشرّعها بغية الحفاظ على هويتها. بمعنى آخر، تؤدي دورها في “قولبة” الأفراد لتفادي جنوتها و أفولها. و إذا ما اضطرّت إلى تغيير “جلدها”، إن جاز التعبير، فإنها تسمح به فقط عندما تقتضي الظروف المناسبة لمصلحتها.

إقرأ أيضاً : عندما تأسر السلطة الدينية شعبها في سجن الإنتصارات الوهمية!

السابق
بعد «اللغط» حول العلم اللبناني.. الحق على «بايدن»!
التالي
تاريخ النهضة في جبل عامل: محمد علي الحوماني.. «مالئ الدنيا وشاغل الناس»(8)