اسمها سالي حافظ، وهي ليست فنانة أو شاعرة، لكنها كتبت قصيدة بجسدها المنتصب، ويدها التي تحمل مسدساً، ووقفتها على أحد المكاتب في «بلوم بنك» في منطقة السوديكو في بيروت.
سالي حافظ قدمت عرضها الفني الجميل من دون أن تدري أن ما تقوم به كان فناً، تماماً مثلما كتب موليير عن السيد جوردان بطل مسرحيته «البرجوازي النبيل» الذي اكتشف أن ما يحكيه يُسمى في الأدب نثراً.
ما قامت به الصبية اللبنانية وهي تحاول استعادة مالها الذي صادره البنك من أجل معالجة شقيقتها المريضة، كان استعراضاً فنياً.
الحياة تنتفض في وجه الموت العبثي وتستعيد معناها، استعادة المعاني وصناعتها هو جوهر الفن والشعر والإبداع. نكتب أو نرقص لأننا أحياء ونريد أن نعطي لحياتنا معنى، وهذا ما قامت به سالي، فصارت فنانة دون أن تدري، وتحولت خطواتها على أرض البنك إلى جُمل إيقاعية تثير المخيلة وتستدعي التماهي.
اقرأ أيضاً: إذا أردت أموالك إذن أنت مجرم.. سالي نموذجاً
رقصت الصبية اللبنانية دون موسيقى، رقصت على مسرح بلا خشبة، ولم تكن تملك سوى أداة صغيرة هي كناية عن مسدس بلاستيكي. مسدسها الصغير الذي لا يطلق النار كان إدانة لزعماء الميليشيات المدججة بالأسلحة، الذين تحولوا إلى عصابات نهب ومافيات إجرامية.
مسدس يلهو به الأطفال، صار إكسسواراً لمشهد راقص، وإرادة حياة طالعة من بئر الموت اللبناني أخافت الجميع، وأجبرت اللص على رد جزء من الوديعة المالية التي قالوا لنا إنها تبخرت!
سالي كغيرها من صبايا لبنان وشبابه، خرجت في مظاهرات انتفاضة 17 تشرين، وابتلعت ما تيسر من الغاز المسيل للدموع. وقفت مع الذين حملوا بلادهم في عيونهم، وواجهت القمع والرصاص المطاطي.
إنها ابنة جيل الخيبة الذي رفض أن يخيب. السفاحون الذين سحلوا الشبان والصبايا لم يفهموا أن أبناء الانتفاضة وبناتها سيحولون يأسهم وخيبتهم إلى صرخة حرية.
وقفت الصبية فجاءها الفن من حيث لا تدري، وانتفضت الحياة في مفاصلها، فصارت بداية الاقتحامات التي تسارعت على البنوك، وأعادت رسم الخط الفاصل بين النظام والناس.
ساذج من يعتقد أن حل مشكلة المودعين سوف يأتي من أعمال بطولية فردية، وأحمق من يصف العملية بأنها سطو مسلح.
إنها مجرد صرخة حياة تعلن أن نهاية زمن البنوك «الزومبي» قد أتت. بنوك يجب أن يعلن إفلاسها الاحتيالي، وطبقة أوليغارشية حاكمة امتطت السلطة وقتلت لبنان.
بينما كانت سالي ترقص بلا إضاءة أو موسيقى، كانت فرقة «الميّاس» بصباياها ومصمم رقصاتها نديم شرفان تبهر الناس.
عرضٌ استخدم كل تقنيات ما بعد الحداثة، مزجَ الشرقين الأوسط والأقصى، وقدم لحظات من السحر صنعت المفاجأة وكانت تنبض غرابة وسحراً.
الإضاءة كانت ترقص مع الراقصات اللبنانيات وهن يشكلن لوحات مدهشة على المسرح، كأنهن أتين من الحلم وليس من الواقع.
غير أن الإبهار في عروض الفرقة في مسابقة America’s Got Talent افترس التعبير، ولم يترك للجسد الراقص مساحة كي يروي حكاياته، بحيث صرنا أمام عرض فيه الكثير من الميكانيكية، يشير إلى احتمالات التعبير من دون أن يعطيها مساحة تحتاج إليها.
صنعت «الميّاس» مجموعة من أحلام اليقظة التي تتفوق على المنامات، كأنها أرادت لعروضها أن تكون مفارِقة للواقع الذي أتت منه، وأن تبتعد عن يوميات الأسى اللبناني عبر الارتماء في حضن التكنولوجيا.
طرب العين الذي شاهدناه هو وليد ما بعد الحداثة وابن الثقافة التكنولوجية التي تهيمن على عالم اليوم.
لكن هذا الطرب لا يُغني عن طرب القلب، بل عليه كي يستمر وينمو أن يستدعيه محولاً الرقص الجماعي إلى مزيج خلاق من الأفراد الذين يتواصلون بلغة الجسد كي يعبروا عما لا تستطيع اللغة التعبير عنه.
في المقابل، وجد طرب القلب في سالي حافظ ورقصتها العفوية أداته التعبيرية، فأتى التزامن بين الرقصتين اللبنانيتين كي تتكامل الصورة.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن الكلام عن الرقص يأخذني إلى مذبحة شاتيلا وصبرا، في ذكراها الأربعين.
فعاليات وأنشطة الذكرى صارت منبراً يمتطيه الخطباء، واحتفالات تحول المناسبة إلى نصب لا روح فيه.
المذبحة ليست صوراً للضحايا نتفرج عليها، أو مكاناً لادعاءات البطولة الفارغة من المعنى.
المجزرة هي بشر لهم أسماء وحكايات.
بدل كل هذا الكلام يجب وضع لوحة في المقبرة الجماعية تحمل أسماء الضحايا.
هذه المقبرة التي جرى تحويلها خلال حرب المخيمات إلى مكب للنفايات، يجب أن لا نسمح بتحويلها إلى مزبلة للكلام والخطب الرنانة. أمام هول الجريمة، يجب أن يصمت الجميع.
في دراستها الموسوعية عن المذبحة، روت المؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت، كل الحكايات التي استطاعت جمعها.
حكايات تجعل القارئ يشعر بالخجل من حياته.
غير أن حكاية واحدة رواها الكتاب أصابتني بالذهول، ولم أصدقها إلا حين قمت بنفسي بالبحث عن الناجيات والناجين الذين رووها لي. إنها حكاية الرقص.
السفاحون اللبنانييون الذين احتموا بظلال الجيش الإسرائيلي الذي شارك في المذبحة تنظيماً وتنفيذاً، صنعوا من إحدى حلقات المجزرة احتفالاً همجياً بالموت.
أمروا مجموعات من سكان المخيم بالسير في اتجاه المدينة الرياضية، وفي مسيرة الموت هذه أجبروهم على الرقص.
كان على الضحية أن ترقص قبل أن تُقتل.
همجية لا تذكّر إلا بممارسات النازييين.
رقصة الموت في شاتيلا يجب ألّا تغيب عن بال كل من يرقص للحياة.
نرقص كي نقاوم الخيال المريض للفاشيين والعنصريين، وكي نطهّر ذاكرة بيروت من عار رقصة الموت في شاتيلا.