
من كثرة ما التقينا , لا اذكر متى تم لقائنا الأول . لكن أذكر ان حبنا وعهدنا كان دوما يتجدد مع كل لقاء . اذكرك بعمامتك السوداء وانت تتنقل في أزقة الفاكهاني أو في قرى الجنوب حيثما توجد قاعدة للفدائيين . هل تذكر كيف كنا معا ” في يوم شباطي مشمس من شتاء 1975″ يومها صلينا خلف الأمام موسى الصدر في كفر شوبا المدمرة أمام انقاض مسجدها , ووضعنا حجر الأساس لاعادة اعمارها ” برفقة مجاهدي الكتيبة الطلابية ” , و يومها ياسيدي ” حرد علينا بعض الأصدقاء في اليسار اللبناني ويسار (فتح) وأسمعونا تشكيكا وترهيبا ” .
انت الولد العاملي الملتزم بالأرض وبشتلة التبغ تروي لنا حكاية الفلاح الجنوبي معها حكايتك أنت
منذ تلك اللحظة وربما قبلها لم نفترق . اذكر اول يوم بعد انتهاء الحرب الأهلية. تلك الحرب التي أدمت قلوبنا , ووحدت جهودنا من أجل وقفها , والتوجه نحو الجنوب لقتال العدو الواحد الموحد لصفوفنا في مواجهته . ما كدنا نطأ بنت جبيل وعيناتا التي يحاصرها ويقصفها سعد حداد حتى كنت معنا , لتصحبنا في ذات الليلة الى منزل العلامة عبد الرؤوف فضل الله والد السيد محمد حسين فضل الله رحمة الله , تماما كما اصطحبتنا الى منزل الشيخ الشهيد راغب حرب في جبشيت لنقضي الليالي فى منزله أو منزلك , نتحدث في الهم الجنوبي الفلسطيني الواحد .فعندك ” يافا على الهدب ساهرة , وحيفا على الزند وشم , والقدس في أخر الليل .. في أخر الجرح فجر “.
ذات يوم كنت اتابعك حين استضافتك جزيل خوري في احدى الفضائيات , سألتك كثيرا عن الجنوب و فلسطين ولبنان وايران , اجاباتك كلها كانت باتجاه بوصلة لا تخطئ , باتجاه فلسطين . حاولت احراجك حين سألتك مع من كنت , في أي محور وأي اتجاه ؟ على من كنت محسوبا ؟ أبو عمار أم أبو جهاد ؟ أعرف أنك تحب كلاهما , ظننت لوهلة أنها قد أوقعت بك , فاجئتني أجابتك , أنا كنت مع الكتيبة الطلابية . لحظتها شعرت أني معك في أحد بيوت الجنوب الذي أحبنا وأحببناه .
انت الولد العاملي الملتزم بالأرض وبشتلة التبغ , تروي لنا حكاية الفلاح الجنوبي معها , حكايتك أنت , وتربطها بتعاون أبناء المخيم الفلسطيني لتهريب بضع ورقات من التبغ , بعيدا عن أعين الشرطة وشركة الريجي , علها تدر عليه بعض الدخل , بعيدا عن الاحتكار المتوحش الذي ينهش اجساد أبناء الجنوب . قضية أبناء الجنوب كانت قضيتك , تجرعت مرارتها كما يصفك صديقك السيد محمد حسن الأمين حين يصف تلك المرارة ” العالقة على ثدي أمه التي وضعته في حقل التبغ بين شجيراته الصغيرة الخضراء التي تمتد ربيعا صيفيا على وهاد الأرض الطيبة وفوق تلالها ” . ياسيدي طاردتك شتلة التبغ وورقاتها حتى أخر يوم ,أنهكت الرئة التي توقفت عن العمل , لكنك لم تستسلم أبدا .
يا سيدي لا ابالغ أذا قلت انك آمنت باسلام يتجاوز المذاهب , ويسمو فوق الطوائف ويمتد ليعانق كل أبناء الوطن الواحد على اختلاف مللهم ونحلهم
يا سيدي لا ابالغ أذا قلت انك آمنت باسلام يتجاوز المذاهب , ويسمو فوق الطوائف, ويمتد ليعانق كل أبناء الوطن الواحد على اختلاف مللهم ونحلهم . أتصفح كتبك فأجدل تقول لي في اهداء أحدها ” أبا محمد , هذا مشروع آخر لمزيد من التفاهم معك من أجل حياة أجمل وعقل أكثر ” . اذن هو العقل والامعان في التفكير, والأسئلة الحائرة التي كانت تراودك عن نفسها , فتستجيب لحوارها احيانا وتضطر للصمت أوقاتا أخرى . الم تقل في مقال حمل عنوان اليكم وصيتي , ” ان احدا من الروحانيين أو العلمانيين لم يقل لنا أن غياب العقل يسمى دينا , فلماذا يسمون غياب العقل أي غياب الدين دينا “. كنت تستغرب أن تدعى قلة العقل المنتشرة بيننا هذه الأيام دينا . وانت الذي تعتبر الوحدة وحدة الأوطان ووحدة المذاهب والهدف , وكل ما يوحد مجتمعاتنا وأمتنا ” هدفا ومصيرا .. قضية وارادة .. لا ماضيا فحسب بل وحاضرا ومستقبلا أيضا ” . وتصرخ بأعلى صوتك ” أعطني وطنا .. أعطك حبا . أعطني خبزا ..أعطك أمنا ” محذرا من أن الولد العاملي ” لا يلعب .. ووراء الحزن الداكن في عينيه مقادير من الغضب “.
أعرف أنك لم تعد تحتمل أن الاسلام دين الوحدة والتوحيد قد اضحى مذاهب والوطن استحال طوائف , والأمة تحكم بالفساد والاستبداد وتستباح من صهاينة الخارج والداخل , والعقل تراجع أمام الدواعش المستحدثة في كل مجال وحيز
في اهداء أخر قلت لي ” هذه جنينتي , فيها ورد وفيها شوك , خذ الورد وعطره ودع لي الشوك وجرحه الذي أراه ضروريا لمناعة الروح والجسد .. وتوكيد جمال الورد ورائحته ” . لماذا اذن غادرتنا وما زال لدينا الكثير الكثير لننجزه معا . هل أزعجناك الى الحد الذي لم يقوى فيه قلبك الكبير أن يتحمل مصائبنا ومصائرنا . أعرف أنك لم تعد تحتمل أن الاسلام دين الوحدة والتوحيد قد اضحى مذاهب , والوطن استحال طوائف , والأمة تحكم بالفساد والاستبداد , وتستباح من صهاينة الخارج والداخل , والعقل تراجع أمام الدواعش المستحدثة في كل مجال وحيز .
أم أنك رحلت شوقا الى أحبتك , ووجدت صحبتهم خير من صحبتنا , لعلك اشتقت الى الشيخ راغب حرب وبلال فحص وحسن بدر الدين الذي يرقد جثمانك ألآن بجوارهم في بلدتك الجنوبية جبشيت, في حين تحلق روحك فوقنا . سر يا سيد القلوب وشيخها فهناك من ينتظرك , أحباؤك أبو علي حلاوة وحسان شراره وعصمت مراد وسمير وجواد ونعيم وجورج وطوني والحاج نقولا وسعد ودلال وعلي أبو طوق ومروان والقسام وابو جهاد ومحجوب وبلال و جواد كلهم وآخرون يضيق المقام عن ذكرهم بانتظارك . هم الآن قد رصوا الصفوف في كتيبة واحدة و أقاموا الصلاة بانتظار حضورك الأبدي . يستعدون للصلاة خلفك في صلاة واحدة , موحدة قبلتها القدس , وبوصلتها فلسطين , وعمادها الوحدة والتوحيد , ودعاؤها لكل المستضعفين في الأرض , كما كنت تدعو دائما.
إقرأ أيضاً : درباس يستذكر عبر «جنوبية» السيد هاني فحص: صندوق من ذهب وصاحب نكتة باقٍ «مثل العطر»
*الولد العاملي هو اسم اول كتاب اصدره السيد الراحل فحص تحت عنوان “مذكرات الولد العاملي” في العام ١٩٧٩ وهو أسمى نفسه بهذا الأسم، وقدم للكتاب السيد الراحل محمد حسن الأمين