للسيد هاني فحص عدة شخصيات وليس عدة وجوه، لانه كان ثابتا في انحيازه لقضايا الانسان العادلة في بلاده وداعما لثورات الشعوب ودفاعها عن حرياتها، وكان قلمه هو سلاحه يشحذه ضدّ الظلم اينما وجد، فناصر الثورات جميعها من فلسطين ضد الاحتلال الصهيوني، الى ايران عندما ثارت مع الامام الخميني واطاحت بالشاه الداعم لاميركا واسرائيل.
ومن هنا لا بدّ من عرض شخصيات السيد هاني فحص التي واكبت الاحداث الجسيمة في اربعة أقطار وبلدان على مساحة العالم العربي والاسلامي، فسجلها بقلمه وطبعها بعمله ورأيه، وكان شاهدا وفاعلا في عصره بصورة لا مثيل لها.
هاني فحص اللبناني
هاني فحص اللبناني الجنوبي العاملي ابن بلدة جبشيت الذي عشق اللغة العربية منذ صغره كما يقول متأثرا بخال والده الاديب المؤرخ والشاعر العروبي الشيخ علي الزين، انطلق من عاشوراء النبطية نحو المشيخة ودراسة العلوم الدينية، ثم سعى لاحقا بعد عودته من النجف الى بلده مع عدد من ادباء وشعراء الجنوب لتأسيس منتدى ادباء الجنوب لـ”تحرير الإبداع الأدبي والشعري من وصاية الأحزاب”، وكان هذا باكورة اطلالته على الشأن العام، اما نضالاته فقد بدأها في اواخر عام 1972 عندما شارك في قيادة انتفاضة مزارعي التبغ المطلبية فيقول:
اختار الفقر على الأكل من الحق الشرعي فانخرط في صفوف المزارعين الصغار لأنه منهم
“صدرت قرارات الريجي بهدف مزيد من التضييق على المزارعين، وكانت أختي وأمي وبنات قريتي ينزلن منتصف الليل إلى الحقول ويعملن في زراعة التبغ المضنية لنعيش، فنعيش بصعوبة. وأنا اخترت الفقر على الأكل من الحق الشرعي المؤلف من الخُمس والزكاة إلا في الحدود الدنيا. انخرطتُ في صفوف المزارعين الصغار، لأني منهم وأفهم فقرهم. حاولت أن أمنع الانفجار الذي كانت تريده الدولة نفسها. افتعلوا مشكلاً واشتعل الوضع، اعتصمنا داخل مبنى الريجي احتجاجاً، فأقفلوا علينا وأبقونا في الداخل ثلاثة أيام من دون ماء أو طعام. وعندما جاءت تظاهرة لتأييدنا أطلقوا النار عليهم، فاستشهد حسن الحايك ونعيم درويش، وجرح عدد من المزارعين. كنا 83 شخصاً بيننا شيوخ عمرهم يتجاوز 60 سنة”.
وعندما اغوته السياسة ترشح للانتخابات الفرعية عام 1974 متحالفا مع زعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط الذي التقاه اكثر من مرة، ولكن سرعان ما انسحب من المعركة بسبب اعتراض السيد موسى الصدر آنذاك ، ثم خاض عام 1992 معركة الانتخابات النيابية ورغم خسارته فانه سجل اول صوت اعتراضي على سلطة الثنائي الشيعي امل وحزب الله الذي كان حلفهما في طور التشكل، بعدها قرر ان يتفرغ للحوار. فالتقى بسمير فرنجية وتم تشكيل «المؤتمر الدائم للحوار اللبناني» الذي يعتبر تجربته فيه اهم المحطات في حياته الفكرية والسياسية وشارك في المؤتمرات المحلية والعربية والدولية ومثل لبنان كعلم فكري وطني شيعي في العشرات منها.
عرف بعلاقته الوثيقة مع الشهيد ابو جهاد الذي أسس مع السيد الكتيبة الطلابية وكان مهمتها رفد الثورة الفلسطينية بالنخب الثقافية
بعدها عيّن عضواً مؤسساً في الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي وعضواً مؤسساً في «اللقاء اللبناني للحوار» وعضواً في الهيئة الشرعية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى حيث كان قريباً وشريكاً للإمام محمد مهدي شمس الدين في مرحلة شديدة الدقة والحساسية.
هاني فحص العراقي
اما هاني فحص العراقي فيتبدّى عندما هاجر الى النجف (العراق) طالباً في حوزاتها الدينية عام 1963، فدرس على يد عدد من كبار الأساتذة، والتحق بكلية الفقه حيث حاز شهادة البكالوريوس في الفقه والاداب.
التقى على مقاعد دراسته في الكلية بزملاء مميزين وطموحين لم ترضهم المباحثات الفقهية فحسب، وخاضوا في شتى المجالات الفكرية والثقافية والادبية، ثم أسسوا مجلة النجف ونشروا فيها كتاباتهم الادبية والفكرية والدينية الحدثوية وسط معارضة قوية من رجال الدين التقليديين.وفي النجف تعرف على صديق عمره السيد محمد حسن الامين الذي شكل معه ثنائيا فكريا وثقافيا مميّزا امتد الى لبنان لاحقا.
ويقول السيد الراحل “كنت في كلية الفقه منبر كنت أتلو منه خطابات في الشعر والأدب والتاريخ، وكنت أكتب قصة ونقداً أدبياً، وعندما أرادوا أن يجددوا المجلة، اختاروني مشرفاً تنفيذياً على العمل فيها كلها. استمرت المجلة سنة قبيل النكسة (67) وبعدها، وكان العدد الأول عن فلسطين، وبعده جرى التركيز على الحداثة واللغة العربية من دون أن تغيب فلسطين.
إقرأ أيضاً: نصرالله «يستعيض» عن الحرب برسالة «غير علنيّة» للاسرائيلي..ويطلق «سراح» الحكومة!
أسهمت المجلة في التأسيس لحالة ثقافية، واتهمني أشخاص من حزب الدعوة بأن المجلة مشبوهة، وتحمل الصفات التالية : أولاً، أن اسمها مكتوب بالكوفي؛ أي أنها قومية عربية، ثانياً أن اسم المجلة على اليسار يعني أنها يسارية، ثالثاً أننا بدلنا الغلاف وأصبح “لوزانج” شبكة معينات، ما يعني ديالكتيك، رابعاً أننا صدّرنا العدد الأول باللون الأسود والخطوط البيضاء، وهذه سوريالية أو وجودية.بعد ذلك شاركت أنا والسيد محمد حسن الأمين في إصدار أول مجلة أدب حديث في العراق، اسمها “الكلمة”، صدر العدد الثاني منها وعلى الغلاف صورة غيفارا بالأحمر “حي في كل رصاصة”. بقيت المجلة تصدر لفترة طويلة، وكان فريقها مؤلفاً من حميد المطبعي، موسى كريدي، عبد الإله الصايغ، عزيز السيد جاسم، حسين مردان، زهير الجزائري، جان دمو، رزاق أبو الطين، زهير غازي زاهر، موفق خضر سعيد، وغيرهم.
ويقول الاديب زهير الجزائري في مقالة متحدثا عن شدة تأثير سيدين شابين قادمين من جنوب لبنان على الحياة الفكرية والدينية في النجف منتصف الستينات من القرن الفائت: “حين يأتي الى النجف ضيوف من بغداد، نحرص على أن نأخذهم إلى المدهشات الأربع: الحضرة العلوية ونحشرهم وسط دفق الناس ولهفتهم على لمس شباك الضريح أو تقبيله، وادي السلام والامتداد المروع للموت وقد تحول من فكرة إلى واقع، جامع الكوفة فتسحرهم رحابة المساحة وتركز التاريخ، والأعجوبة الرابعة هي السيدان حداثيان تحت عمامتين (هاني فحص ومحمد حسن الامين)، وكان السيدان رحمهما الله لا يتخطي عمرهما منتصف العشرين!
هاني فحص الفلسطيني
وكان لانخراط السيد هاني في العمل المقاوم الفلسطيني مع حركة فتح اثره البالغ في سبعينات القرن الفائت مناصرا كفاحها المسلح ضد الاحتلال الاسرائيلي، وكان يلتقي بشكل دائم رئيس منظمة التحرير الفلسطيني ياسر عرفات (ابو عمار)، كما عرف بعلاقته الوثيقة مع الشهيد ابو جهاد الذي أسس مع السيد الكتيبة الطلابية ومهمتها الأساسية رفد الثورة الفلسطينية بالنخب الثقافية.
ويقول السيد في احدى المقابلات “كانت بيني وبين أبي عمار مودة خاصة جداً وعميقة، كانت علاقتي مميزة مع أبي جهاد أيضاً. أبو عمار يُربك من يختلفون معه أو يتفقون، كان رجلاً إشكالياً في كل شيء، حتى اللغة العربية التي جعلنا نحب أخطاءه فيها ونتفكه بها ونتذكرها وكأنها شعر، ما عدا فلسطين، بل إن إشكالياته كلها كانت، حتى الخطأ كان من أجلها. لم أرَ نرجسياً خفيف الظل في نرجسيته مثله، لكن نرجسيته كلها في خدمة فلسطين، كأنه يختزلها في ذاته، ويضخم هذه الذات في حضرتها، كان في نرجسيته إبداع، كان صعباً ومرناً إلى أقصى الدرجات. فيه شيء قَبلي عشائري، وفيه حداثة حادة، فيه استبداد تفصيلي وديمقراطية عامة، لكنك لن تكون معه على يقين أبداً. أبو عمار حامض وفيه حلاوة خاصة، ولا خلاص منه إلا به.
هاني فحص الايراني
عندما بدأت الثورة الإيرانية العمل عام 1978 كان السيد هو صلة الوصل بين ياسر عرفات وقائد الثورة الامام الخميني، وقد زار الخميني في منفاه الباريسي، ورافق ابو عمار على نفس الطائرة التي زارت إيران بعد أيام من انتصار الثورة الإيرانية ضد الشاه.
عاش في طهران ثلاث سنوات، وشغل منصب عضو اللجنة العلمية للمؤتمرات التي تضم شخصيات علمية كبيرة. وكان مستشاراً غير معين للإذاعة والتلفزيون الإيراني سنة 1982 ومسؤولاً مشاركاً في القسم العربي في هيئة الإعلام الحوزوي، كما أشرف على مجلة أبحاث اسمها “الفجر”.
كان السيد هو صلة الوصل بين ياسر عرفات وقائد الثورة الامام الخميني ونظم زيارة عرفات الى ايران بعد انتصار الثورة
درّس في قم فنّ البحث والكتابة، وهو فرع استحدثه السيد هاني، ودرّس أيضاً تاريخ الشعوب والاستعمار من القرن الثامن عشر، ثم عُيّن مستشاراً ثقافياً لشؤون العلاقة والاتصال بالعلماء المسلمين حول العالم في مؤتمر أئمة الجمعة والجماعة، وكان رئيس الهيئة العليا السيد علي الخامنئي رئيس الجمهورية، وأعضاؤها مجموعة من العلماء من بينهم السيد محمد خاتمي عندما كان وزيراً للإرشاد.
وفي الختام ، من المؤكد ان كثيرين قد تعتريهم الدهشة وهم يطالعون سيرة السيد هاني فحص الصاخبة المليئة بالاحداث الجسيمة التي جعلت منه شاهدا ومؤرخا لها، واحيانا بطلا مشاركا فيها كما حدث عندما رتب لقاء الامام الخميني بياسر عرفات، غير ان هذا البطل لم يعمر طويلا (68 عاما)، في حين همته وقوة عزيمته وغزارة معرفته جعلته يحيا وكأنه عاش عمرين أو أكثر.