قضي الأمر ، وباتت الإنتخابات النيابية أمراً واقعاً هي التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها إنتخابات “عالمية” بتأثيرها، نظراً للسقوف العالية التي رفعها المتنافسون، الذين يدِّعي كل منهم بأن هناك مؤامرة تستهدفه مُبرِّراً بذلك أمام جمهوره وناسه “معركته”، التي شحذ لها كل الهمم، وإستنفر لها كل “الأسلحة” من سياسية ومالية وإعلامية وحتى دينية، وصلت حد أنه بات لكل طرف من الأطراف المتنافسة فيها جهاز ل “الإفتاء السياسي”، بعد أن كان هذا الأمر مقتصراً في السابق على حزب الله، بوصفه حزباً دينياً عقائدياً، وذلك عبر التكليف الشرعي.
في ظل هذه الأجواء لا بد من طرح السؤال التالي، ما هي مآلات الوضع في لبنان بعد هذه الإنتخابات، هل سيكون هناك من تغيير أم أن الوضع سيبقى على ما هو عليه؟ للإجابة على هذا السؤال، لا بد أولاً من إستعراض الأطراف المشاركة في المعركة الإنتخابية و”برامجها”، ومن ثم مراجعة تاريخ هذه الأطراف و”سيرتها السياسية” ماضياً وحاضراً أقله منذ العام 2005، عام الخروج العسكري السوري من لبنان، الذي كان يفترض أن يكون نهاية للوصاية الخارجية المباشرة على لبنان، بعد خلُوِّه ولأول مرة منذ 30 عاماً من الجيوش غير اللبنانية، وبإعتباره كان آخر الجيوش الأجنبية المتبقية على الأراضي اللبنانية، بعد تحرير جنوب لبنان من الإحتلال الصهيوني عام 2000، الأمر الذي لم يحدث للأسف بل دخل اللبنانيون مرحلة جديدة من الصراع الداخلي، الذي كان مرآة للصراع الإقليمي، الذي عاد ليطل برأسه مجدداً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأميركية، وما خلفتها هذه الأحداث من تطورات قلبت الأوضاع في المنطقة رأساً على عقب، فكان أن إنقسم اللبنانيون بعد إغتيال الشهيد رفيق الحريري كما هو معروف إلى فريقي 8 و 14 آذار، بحيث عاد الصراع على هوية لبنان ودوره في المنطقة، وكان هذا الصراع على حساب الشأن الداخلي اللبناني، ما أدى إلى الإنهيار الحاصل اليوم.
بنظرة سريعة اليوم إلى المتنافسين، نجد بأن الأطراف هي نفسها تقريباً المتنافسة، فريق 8 آذار مع التيار الوطني الحر بقي على حاله بقيادة حزب الله فعلياً، بسبب ثبات حليفه الإقليمي إيران، وفريق 14 آذار الذي طالته المتغيرات بفعل التطورات الإقليمية التي طرأت على راعيه الإقليمي المملكة العربية السعودية كحرب اليمن، وتخبط سياساتها منذ العام 2015 تاريخ تسلم الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز مقاليد الأمور فيها، وتولي ولده محمد ولاية العهد، بعد تطورات داخلية أدت إلى إزاحة عمه مقرن بن عبد العزيز، ومن بعده إبن عمه محمد بن نايف، تلاها أزمة الريتز كارلتون عام 2017 والتي كان للبنان منها نصيب بما سمي أزمة إحتجاز سعد الحريري، التي يبدو أن تداعياتها مستمرة حتى اليوم، وهي بطريقة أو بأخرى أدت أو لنقل ساهمت – في الشق الخارجي – بإتخاذ الرئيس سعد الحريري قراره، بتعليق عمله السياسي التقليدي وعزوفه عن المشاركة في الإنتخابات النيابية مسجلاً بذلك أول متغير مهم وحقيقي في هذه الإنتخابات، وهذا ما أفسح في المجال لقائد القوات اللبنانية، ليتصدر المشهد الإنتخابي في مواجهة قوى 8 آذار، لتصبح المواجهة عملياً بين حزب الله والقوات اللبنانية، كممثلين عن طرفي الصراع الإقليمي كما هو واضح، إيران والمملكة العربية السعودية.
المتغير الآخر بعد عزوف سعد الحريري وتيار المستقبل هو دخول ما يسمى ب “قوى التغيير” ساحة المنافسة مع قوى السلطة
المتغير الآخر بعد عزوف سعد الحريري وتيار المستقبل عن المشاركة في هذه الإنتخابات، هو دخول ما يسمى ب “قوى التغيير” المنبثقة عن حراك 17 تشرين 2019، ساحة المنافسة مع قوى السلطة، بلوائح متعددة غير موحدة، وهي التي كانت تعمل تحت شعار “كلن يعني كلن”، لتعود اليوم وتدخل اللعبة بشروط هذه السلطة، ليبدو الأمر وكأن شعار “كلن يعني كلن”، كان بوجه سعد الحريري فقط، وهو الوحيد الذي تماهى مع مطالبهم وقدم إستقالة حكومته، ودفع ثمن هذه الإستقالة رفضاً من العهد، لإعادة التعامل معه على قاعدة المبادرة الفرنسية، ما أدى في النتيجة – وكان هذا الشق الداخلي للقرار – إلى تعليق عمله السياسي وعزوفه عن المشاركة، ليبدو وكأن قوى التغيير تعاملت مع سعد الحريري على طريقة “قوم لأقعد محلك” ، أو هذا على الأقل ما يعتقده فريق واسع، من محازبي تيار المستقبل ومؤيديه على الساحتين السنية والوطنية.
خروج سعد الحريري من الصورة، أخرج الصراع ولأول مرة منذ العام 2005 من إطاره السني – الشيعي المباشر، ولو في الشق الداخلي اللبناني، وأعاده لأول مرة أيضاً إلى ما قبل إتفاق الطائف أي إلى صراع لبناني – لبناني، كي لا نقول إسلامي – مسيحي على هوية وصورة لبنان نظراً لشخصية المتصدرين له، ولو أنه بقي بالشق الإقليمي منه صراع سني – شيعي أو لنقل إيراني – سعودي، وهذا ما زاد في سخونة الحملة الإنتخابية، التي ركزت على الشحن الغرائزي وإذكاء الخوف على الوجود من اللبناني الآخر، دافعة بكل الهموم الإقتصادية للمواطن، والإنهيار المالي والمعيشي والإجتماعي إلى الدرجة الثانية من الإهتمام، وعبر الحديث عنها بالعموميات، بحيث لم نجد أي برنامج جدي تفصيلي لأي لائحة إنتخابية، يظهر كيفية الخروج من الأزمات الراهنة، كما هو ديدنهم طيلة السنوات ال30 الماضية، فالقوات اللبنانية لا تجد ما تقدمه عملياً سوى اللجوء دائماً للتذكير ب “المقاومة اللبنانية” التي برأيها حمت لبنان من السلاح الفلسطيني والسوري، والتي حافظت على هوية لبنان وتعدديته، وبأنها ستواجه اليوم بنفس الروحية سلاح حزب الله، الذي تعتبره سلاحاً إيرانياً وتحمِّله مسؤولية ما وصل إليه لبنان من إنهيار، بسبب سياساته في الداخل والخارج، المشكلة أنها اليوم في هذه الإنتخابات تراها تحارب على عدة جبهات، وتحاول إختزال الجميع بها وحدها، ففي حين تضع خصومها المسيحيين، الذين هم في الصف السيادي في خانة الفاسدين، تتهم خصومها الآخرين كالتيار الوطني الحر وتيار المردة بمحاباة حزب الله وتمكينه من السيطرة على لبنان، وهو الإتهام نفسه الذي تلقيه بوجه سعد الحريري كذلك، ولذلك تراها تسعى الى “وراثته” سياسياً، عبر محاولتها إستمالة الجمهور السني لصالحها، بإعتبارها رأس الحربة في مواجهة حزب الله، وعبر إظهار نفسها ك “إمرأة قيصر” في عفافها السياسي، وهذا غير منطقي ولا مقبول ولا يمكن أن يوصل لمكان.
يواصل حزب الله وأمام فشل أدائه في السلطة، هروبه إلى الأمام بالحديث هو أيضاً عن “المقاومة الإسلامية”
على الجانب الآخر يواصل حزب الله وأمام فشل أدائه في السلطة، هروبه إلى الأمام بالحديث هو أيضاً عن “المقاومة الإسلامية” التي حررت لبنان من إسرائيل وحمته من إرهاب الدواعش، وبأنه سيستمر في نفس النهج الذي أوجد – من وجهة نظره – توازن رعب مع العدو الصهيوني، وبأنه سيواجه “عملاء إسرائيل”، غامزاً من قناة القوات اللبنانية وتاريخها في الحرب الأهلية، وهو كذلك تراه يحارب كما القوات اللبنانية – يا للمفارقة – على أكثر من جبهة خاصة داخل بيئته – في ظل تماسك تحالفاته – في محاولة منه لخنق أي صوت شيعي حر معارض لتوجهاته، وبينما تلجأ القوات اللبنانية لمحاربة خصومها التقليديين، يلجأ الحزب إلى التضييق على “قوى التغيير” الذي بدأ معركته معها منذ 17 تشرين، بحيث كان هو حارس الهيكل لهذه السلطة المجرمة، عبر تصديه للمتظاهرين والمعتصمين السلميين في الساحات، في الوقت الذي إستذكر السيد حسن نصرالله ولأول مرة في أحد خطبه الأخيرة، وفي معرض حديثه عن المقاومة وتاريخها، كل من الإمام السيد موسى الصدر الذي يُعتبَر حزب الله ثمرة من ثمار الإنشقاق عن حركته الأم حركة أمل، وكذلك الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي حورب في حياته لرفضه ولاية الفقية وهُمِّش أنصاره بعد مماته، والمرجع السيد محمد حسين فضل الله، الذي أصبح من المغضوب عليهم بمجرد إعلان مرجعيته الدينية، وهو الذي كان أول مرشد روحي للحزب وبات يُضيّق على أنصاره ومريديه حتى اليوم، كي لا نقول أكثر، إستذكرهم اليوم بعد طول إغفال لأدوارهم، بالرغم من الإستمرار في تهميش أنصارهم مع غيرهم من علماء الشيعة وعامتهم، لمجرد الخلاف مع الثنائي، وكأني به يقول بأن الشيعي الجيد في نظر الحزب هو الشيعي الميت، وما ذلك إلا لمحاولة منه لشد العصب الشيعي أكثر فأكثر، عبر إستقطاب أنصار هذه الشخصيات، في ظل الواقع المعيشي القاسي والمرير الذي بات يعاني منه الناس على إختلاف مشاربهم.
نرى غياب البرنامج العملي لحل أزمات البلد عن إهتمامات المتنافسين، الأمر الذي لا يدع المجال لأي تفاؤل بإحتمال تغير الوضع بعد الإنتخابات
وهكذا نرى غياب البرنامج العملي لحل أزمات البلد عن إهتمامات المتنافسين، الأمر الذي لا يدع المجال لأي تفاؤل بإحتمال تغير الوضع بعد الإنتخابات، سيما وأن “السيرة السياسية” لهؤلاء الأفرقاء لا تبشر بأي خير، إذ أنهم كانوا شركاء في غالبية حكومات ما بعد إنتخابات 2005.
فمنذ ذلك التاريخ تشكلت في لبنان 9 حكومات “وحدة وطنية”، كان منها حكومة واحدة تحوز الأكثرية فيها قوى 14 آذار وهي حكومة فؤاد السنيورة الأولى، التي سقطت بإجتياح 7 أيار، بعدها كان هناك 4 حكومات حازت فيها قوى 8 آذار على الثلث المعطل، بالرغم من الأكثرية النيابية التي كانت تحوز عليها قوى 14 آذار، وهي حكومة السنيورة الثانية بعد إتفاق الدوحة، وحكومة الحريري الأولى بعد إنتخابات 2009، والتي أسقطت بالثلث المعطل عبر بدعة “الوزير الملك”، وبعدها حكومة تمام سلام عام 2014، والرابعة هي حكومة سعد الحريري الثانية والأولى في عهد الرئيس ميشال عون، كما كان هناك 4 حكومات يمكن القول، أنها كانت حكومات تمتلك فيها الأكثرية قوى 8 آذار، وهي حكومة “القمصان السود” التي ترأسها نجيب ميقاتي عام 2011، بعد الإنقلاب على حكومة سعد الحريري الاولى، وحكومة سعد الحريري الأخيرة بعد إنتخابات 2018، التي حصلت فيها قوى 8 آذار على الأغلبية البرلمانية، وحكومة حسان دياب بعد حراك 17 تشرين، والحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي.
التغيير والتجديد لا يمكن أن يكون بأدوات قديمة وأفكار عقيمة، وأنظمة وقوانين بالية أكل الدهر عليها وشرب
في هذه الحكومات التسع كانت قوى 8 آذار ممثلة فيها جميعها، بداية عبر الثنائي الشيعي وبعد الدوحة إنضم إليها التيار الوطني الحر، كذلك الحزب التقدمي الإشتراكي فيما كان تيار المستقبل ممثلاً في 7 منها إذا إعتبرنا أنه ممثل في الحكومة الحالية، في حين أن القوات اللبنانية التي تتصدر المواجهة اليوم شاركت في 5 منه .
وهكذا نرى بأن هذه الأطراف التي أوصلت البلد إلى ما يعانيه اليوم – بغض النظر عن المسؤولية النسبية لكل منها – والتي كان لكل منها أغلبيتها النيابية والوزارية، ومع ذلك فشلت في منع الإنهيار على أقل تقدير، لا يمكن أن تكون هي الحل أو التغيير المأمول ، ربما لأن الحل أكبر منها أو لا يناسبها، لأنه يرتبط بالنظام السياسي ككل، فالتغيير والتجديد لا يمكن أن يكون بأدوات قديمة وأفكار عقيمة، وأنظمة وقوانين بالية أكل الدهر عليها وشرب، ولم تعد متناسبة مع روح التطور والعصر الذي يعيشه العالم من حولنا. لا نقول هذا من باب التيئيس لأحد أو فقدان الأمل بالتغيير، أو تحريضاً لأحد بعدم المشاركة في الإنتخابات والحياة العامة، ولكن نقوله من باب قراءة الواقع المعاش وكما يقال بالعامية “مين جرب المجرب كان عقلو مخرب”، وهو الترجمة الشعبية لما قاله العالِم أينشتاين “الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وإنتظار نتائج مختلفة” ، فكيف والحال هذه وقد فعلنا الشيء نفسه عدة مرات وبنفس الأسلوب. هذه هي القضية ، يبقى أن ننتظر النتائج خاصة في صفوف “قوى التغيير” ليبنى على الشيء مقتضاه.