بادية فحص تستذكر العلامة الأمين: خسارتك لا يعوضها شعر ولا عمر

بادية فحص

بمناسبة الذكرى الأولى على وفاة العلامة السيد محمد حسن الأمين، كتبت الصحافية بادية فحص عبر حسابها على فيسبوك التالي:

“على شرفة بيتنا الواسعة في كيفون، كانت شمس المغيب ضيفة مجالسنا، كنا ننتظر انحدارها التدريجي نحو البحر، لنستدرج بعضنا بعضا إلى مجلس الشعر.
نصف الكراسي بشكل دائري، ونضع طاولة كبيرة في الوسط، تحضر أمي الشاي المهدر، وتضع صينية الاستكانات ذات الخطوط الذهبية وكاسة القند (مكعبات السكر) فوق الطاولة، وتبدأ بصب الشاي، لكل واحد حسب ذوقه، ولا يكتمل المشهد، إلا بوصول السيد (محمد حسن الأمين).
كان السيد كما الشعر، زين مجلسنا، ننتظر مجيئه في نهاية الأسبوع، لنقرأ عليه ما حفظناه من قصائد لشعراء يفضلهم كأبي، ننهي نوبتنا الشعرية بسرعة، ثم نجلس متلهفين، لنصغي إليه، كيف تنقلب القصيدة أكثر مهابة وجلالا، بصوته…
يجلس من جهة الداربزين، يلقي يده باتجاه حوض الزهور، يلمس الحبقة بأطراف أصابعه، وكمن يكسر زجاجة عطر، تندلق رائحة الحبق في الهواء دفعة واحدة، فيغمغم الجالسون: الله الله…
وتتحول الله الله، إلى لازمة، نرددها مع كل كلمة يلفظها، عظمة على عظمة يا سيد…
كان السيد شاعرا، كتب أعذب الشعر، وكان شاعرا أكثر، بطريقة تفاعله مع القصيدة، كان يلقيها بيديه وقلبه وعينيه، بنبرة تضفي عليها بعدا حسيا، تزدحم فيه الإشارات، وتتسع الرؤية، وتعلو وتهبط موجات الصوت كأنها تتنقل فوق سلم موسيقي، وتنتشر رائحة الفصاحة، فيغمغم الجالسون: الله الله…
كان الشعر أفقا ساحرا تنتهي عنده أحلامنا، التي لم تعترف يوما، بأفق يحدها، كان طائرنا الذي يتجول بنا في الأزمان والأماكن، خارقا كل الحدود، مستدنيا كل الأمنيات والسعادات…
في الأسفل، تلمع بيروت الغارقة في وحول الحرب الأهلية، مثل قصيدة يتيمة، والبحر يضحك لها ولنا، وفوق، على الشرفة الجبلية، تتوهج عينا السيد، مع قصيدة للمتنبي على البحر الطويل، وأخرى بالعامية لسعيد عقل، وثالثة من جواهر الجواهري…

مولاي الحلو كما لاذ الشاعر بدجلة ألوذ بهذه الذكرى من ظمأ الشوق وقسوة الفراق


كنت أنا الطفلة الدانية من الثماني سنوات من عمرها، على خصام مع الجواهري – شيء غارق في السوريالية- كان أبي مصرا أن يحببني به، وأنا كنت صغيرة جدا على تذوق شعره، فأدخلني إصراره في خصام معه أيضا، وكان السيد محامي الصلحة…
في ذلك اليوم، تجهزنا لإلقاء قصائدنا، كان عليّ أن ألقي قصيدة “فلسطين الدامية” لخصمي (الجواهري)…
كنت قد أوهمت أبي بأني حفظتها، لكنني لم أفعل، وحفظت قصيدة أخرى، لشاعر مجهول، لم أعد أذكر اسمه، عثرت عليها في بريد القراء، في واحدة من المجلات الكثيرة المنتشرة في بيتنا…
وقفت وكلي ثقة باختياري وألقيتها، وما زلت أغيبها حتى اليوم…
تقول القصيدة التي نسيت عنوانها أيضا:
لن أسافر ولمَ السفر؟
تبقين حيث يكون الربيع
وأبقى حيث المطر
فشمس لبنان غابت
لكن لن يهجر القمر
لن أسافر ولمَ السفر؟
هناك حيث ولد حبنا
هناك تحت الشجر
هناك حيث أكلنا
أحلى وأطيب الثمر
لن أسافر ولمَ السفر؟
عودي، عودي لا تهاجري
عودي إلى ضفاف النهر
تجولي في الشوارع قبل الرحيل
على الجدران تجدين الصور
كانوا شموعا في كل دار
والآن ترابا تحت صخر
لن أسافر ولمَ السفر؟
أنهيت القصيدة، والصمت مخيم على الجالسين، لا ثناء، لا أحسنت، الكلمة المرافقة دوما لمجلس الشعر، ثم، انفجر الجميع بالضحك، حتى هطلت دموعهم.
إلا السيد، لمحت عينيه تبتسمان لي، وأنا أوشك أن أبكي، فهدأ روعي، ثم أدناني منه وربت على كتفي وقال لي: “أحسنت يا حلوتي…أعجبني اختيارك، أريد منك في المرة القادمة، أن تحفظي “يا دجلة الخير” وهي لخصمك أيضا”، ثم ألقاها أمامي بطريقته السحرية، فأدمعت وأدمع…
مولاي الحلو، كما لاذ الشاعر بدجلة، ألوذ بهذه الذكرى، من ظمأ الشوق وقسوة الفراق. مولاي، يا جميل الصوت والروح والقلب والمحيا، تحية لك في ذكرى رحيلك الأولى، خسارتك لا يعوضها شعر ولا عمر…”.

السابق
لماذا الصراع على الأكثرية النيابية؟!
التالي
لبنان.. الاستعدادات لـ 16 مايو