وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: نهاية الحريرية السياسية

وجيه قانصو
يخص الدكتور وجيه قانصو «جنوبية» بمقال أسبوعي ينشر حصرياً على صفحات الموقع ومنصاته.

خروج سعد الحريري بدموع المنهزم من حلبة السياسة، يعني نهاية مسار سياسي وصل إلى انسدادات مُحكمة. هي نهاية لا تقتصر على إغلاق ملف تجربة سعد الحريري، إنما نهاية الحريرية نفسها، التي حاول سعد الحريري تمديد صلاحيتها، وتأكيد جدواها في الحياة السياسية، لكنها انتهت نهايات مأساوية، كان مقتل رفيق الحريري أحد علاماتها، وانسحاب سعد من حقل السياسة آخر مظاهرها، بعدما مني بإخفاقات داخلية وتخل دولي شبه كامل عنه.

اقرا ايضاً: وجيه قانصو يكتب لـ«جنوبية»: معارضة سعودية من الضاحية الجنوبية.. ماذا تعني؟!


صحيح أن الكثير من إخفاقات سعد الأخيرة تعود إلى: سوء إدارة لإرث أبيه السياسي، دخوله تسويات وتحالفات وتنازلات غير محسوبة العواقب والمآلات، تفرده بقرار تيار المستقبل الداخلي، وتصرفه لا كقيادة حزبية أو سياسية بل صاحب ملك عائلي، تحييده لشخصيات وازنة وفاعلة داخل البيئة السنية عموماً وتيار المستقبل خصوصاً. إلا أن الأسباب العميقة للنهاية لا تعود إلى فرد أو شخص، بل إلى رهانات وفرضيات ومسلمات انطلقت منها التجربة الحريرية أساساً لإعمار لبنان وبناء الدولة.

نهاية الحريرية السياسية الآن لا يعني فشلها إنما انتهاء أمدها


نهاية الحريرية السياسية الآن لا يعني فشلها، إنما انتهاء أمدها، أي أنها تشكلت إثر اتفاق الطائف، الذي افترض نهاية للحرب الأهلية، وانطلاق المصالحة بين الطوائف والقوى السياسية، وبات الباب مفتوحاً لإصلاح مؤسسات الدولة والنهوض الاقتصادي. افترضت الحريرية أن مشروع بناء الدولة قد بدأ، وأن الإقتصاد والنهضة سيأخذان الأولوية الداخلية. بالتالي قدمت الحريرية نفسها، مشروعاً اقتصاديا ناجحاً، رؤية إنمائية وإعمارية، شبكة علاقات دولية قادرة على جذب رؤوس أموال من الخارج، رعاية واحتضان خليجي يؤمن وفرة سيولة للمشاريع وأوقات الطوارىء والحشرة.

أساس الحريرية نهضوي وإنمائي فقد اتخذت في البداية طبيعة عابرة للطوائف واستطاعت اجتذاب الطاقات والشخصيات من طوائف متعددة

لأن أساس الحريرية نهضوي وإنمائي، فقد اتخذت في البداية طبيعة عابرة للطوائف، واستطاعت اجتذاب الطاقات والشخصيات من طوائف متعددة، ما سهل على الحريرية التمدد فوق مساحة اجتماعية معتبرة من المجتمع اللبناني، واعتماد خطاب وطني عام متحرر نسبياً من التمترسات الطائفية.


تبيّن أن لبنان لم يكن حينها جاهزاً لمشروعات عابرة للطوائف، بل لم يطوّ مرحلة الحرب، إذ بقيت كثير من الملفات معلقة ومفتوحة. فاتفاق الطائف نفسه حوَّل الطائفية إلى حقيقة دستورية وقانونية، تُبنى عليها قواعد الميثاقية والشرعية السياسية، كما إن الهيمنة السورية تسببت بإنتاج جيل من السياسيين والمسؤولين، في غاية الارتهان والتبعية والشخصانية، هذا إضافة إلى أن وضعية سلاح حزب الله بقيت مبهمة ومؤجلة، بحكم اندراجه في جهود مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، ثم أفصح هذا السلاح عن نفسه بعد التحرير، بصيروته، مكوّناً منفصلاً ومستقلاً عن مؤسسات الدولة، أي تحوّله إلى كيان ذي سيادة يقابل بها سيادة الدولة وينافسها.

تبيّن أن لبنان لم يكن حينها جاهزاً لمشروعات عابرة للطوائف بل لم يطوّ مرحلة الحرب إذ بقيت كثير من الملفات معلقة ومفتوحة.


أمام التجاذب الطائفي، اضطرت الحريرية أن تنكفىء إلى حضنها السني، لتحمي ظهرها ولتؤمن لنفسها قاعدة شعبية وازنة، وأُرغمت على تقديم تنازلات وتسويات سياسية مقابل تسهيل الإنماء والنهوض الاقتصادي. هي تسويات لم تقتصر على فك النزاعات وتجنّب المواجهة وتحييد الخصوم، بل تحولت إلى ما يشبه صفقات توزيع المغانم والموارد، وإلى ترسيخ المحاصصة داخل جميع مؤسسات الدولة. لكن الأخطر من ذلك عمدت إلى الفصل بين النمو الاقتصادي وبين سيادة منتقصة للدولة، وإلى التساكن بين الوفرة المالية وتنشيط القطاع الإنتاجي والاستثماري من جهة، وبين هيمنة سورية كاملة تتدخل في كل تفصيلات الحياة اللبنانية من جهة أخرى.
هي تسويات ومساكنات ما كان لها أن تستمر، وقابلة للتفجر في أية لحظة، لأنها موّلدة بداخلها لنقائض وتباينات وتوترات، تقوض أي بناء وإنجاز وتقدم ظاهر. كان مقتل رفيق الحريري هو لحظة الانفجار تلك، هو حدث يضمر النية، لا بالتخلص من ظاهرة الحريرية السياسية فحسب، بل بحصر مرجعية لبنان الدولية، وحتى إلحاقه، بمحور دولي جديد أخذ ينمو ويعلن عن نفسه بإسم محور الممانعة، وبإعادة إنتاج موازين القوى في لبنان، لتكون الكلمة النهائية والعليا للقوة الممثلة لهذا المحور، هو قوة حزب الله.

أمام التجاذب الطائفي اضطرت الحريرية أن تنكفىء إلى حضنها السني لتحمي ظهرها ولتؤمن لنفسها قاعدة شعبية وازنة

لم يُقرأ حدث مقتل رفيق الحريري جيداً، ولم تُلتقط رسائله السياسية والأمنية، وانصبت الجهود على استثمار حدث شهادة رفيق الحريري سياسياً وشعبياً وانتخابياً، فكان لسعد الحريري ما أراد. لكنه عمد إلى الاستمرار في النهج الحريري السابق، أي إدارة الحياة السياسية على طريقة تحييد الخصوم، إجراء تسويات، تقديم تنازلات تضرب صميم مبدأ السيادة، تجزئة وتقطيع وفصل بين مجالات عمل السلطة، يضاف إليه سوء إدارة سعد في صراعه مع خصومه وعلاقاته مع حلفائه. وهي سياسة تُفكِّك بين مسارات الدولة وأوجه نشاطها العامة، وتفصل بين النمو الاقتصادي وبين البؤر الأمنية الخارجة عن هيمنة الدولة، بين العلاقات الدولية الجيدة مع دول العالم، وبين نشاط حزب الله الأمني خارج لبنان من جهة، بين تأليف الحكومة وتأمين غطاء قانوني للدويلة داخل الدولة من جهة اخرى. هي سياسات تسببت بتآكل الدولة وانهيار اقتصاد البلد، وأوقعت سعد الحريري في تناقضات وإخفاقات متتالية، تسببت بأزمة ثقة وصدقية مع دول الخليج، وأحدثت إرباكا داخل تياره واستياءً شعبياً من أدائه، ما جعله مكشوف الظهر، وهدفاً سهلاً بالنسبة إلى خصومه للانقضاض عليه وتدميره.

لم يُقرأ حدث مقتل رفيق الحريري جيداً ولم تُلتقط رسائله السياسية والأمنية وانصبت الجهود على استثمار حدث شهادة الحريري سياسياً وشعبياً وانتخابياً


طُويت صفحة سعد الحريري السياسية، وكنا نتوقع منه أن يعلن انسحابه الشخصي وإقراره بالهزيمة، لا أن يعمّم هذا الموقف على الناشطين في تيار المستقبل وفي الساحة اللبنانية عموما والسنيّة خصوصاً. فالإنكفاء والتخلي، هو فراغ يغري الخصم بملئه، هو إعلان لا تقتصر دلالاته على عدم جدوى السياسة في ظل النفوذ الإيراني، بل مؤداه المباشر إعلان بالتسليم للنفوذ الإيراني، وترك الساحة السياسية خالية وفارغة ليسهل عليه اختراقها وإعادة إنتاجها لصالحه.

طُويت صفحة سعد الحريري السياسية وكنا نتوقع منه أن يعلن انسحابه الشخصي وإقراره بالهزيمة لا أن يعمّم هذا الموقف على الناشطين في تيار المستقبل

أن يعلّل سعد الحريري دعوته إلى الإنسحاب من الحياة السياسية، أو تعليقها لغرض تجنب الحرب الأهلية، هو تعليل يلتقي بل يتطابق مع تهديد حسن نصر الله بالحرب الأهلية، في حال تم التعرض لسلاحه أو وُضع على طاولة البحث والنقاش الداخليين. إنه تعليل فاشل في تصوير الهزيمة، فضيلة أخلاقية والانكسار عملاً بطولياً.
لا بد من عودة قوية لتيار المستقبل إلى الساحة اللبنانية، ولا بد من إعادة تجميع طاقاته المشتتة، وتوحيد جهوده المبعثرة وردم الفجوة بينه وبين جمهوره. لكن لا بد أيضاً أن تكون العودة، لا من باب الإرث الحريري أو الحريرية السياسية، بعدما باتت فاقدة لأكثر عناصر قوتها وفاعليتها المحلية والدولية، ويتبين أنها قد تنفع لغير زمن أو غير وطن.

السابق
البقاع الغربي يغلي.. السجال يحتدم بين «الاشتراكي» وحزب الله: لا تتوهم ان بامكانك اعادة استباحة المنطقة!
التالي
الورقة العربية.. السلطة «ترد» عن «حزب الله»!