
لا شك ان ثورة الامام الخميني الاسلامية في ايران عام 1979، التي تمكنت من تغيير الوجه السياسي للمنطقة، تمكنت كذلك من النفاذ الى داخل الوعي الجمعي للعرب والمسلمين بشكل عام، عندما فتحت الباب أمام الاسلام، لتجربة أول حكم ديني سياسي، وكان للعامل المذهبي اثره في اشعال جذوة المنافسة، فانتعشت حركات الاخوان المسلمين والحركات السلفية الجهادية السنيّة في بلادنا، ونهضت تسعى لتطبيق حكم الشريعة، مقابل اسلام ولاية الفقيه الشيعي في ايران.
إقرأ أيضاً: حسن فحص يكتب لـ«جنوبية»: ايران ما بعد بعد طالبان!
الحكم الأول لطالبان
وبغض النظر عمّا اسفرت عنه تلك النهضات من خيبات، خصوصا في العقد الاخير مع ثورات الربيع العربي، التي فشل اكثرها في احداث تغيير جذري، رغم ان موجاتها لم تنتهِ بعد، فان الحدود الشرقية لإيران حيث تقع افغانستان، يُسجّل انه كان لها تجربتها الاسلامية الدموية الخاصة، فبينما كانت في الثمانينات تقاوم الغزو السوفياتي الشيوعي، بمساعدة وتسليح اميركي للمجاهدين السنة، فان تسعينات القرن الفائت كانت مليئة بالحروب بين فصائل المجاهدين انفسهم، الذين استحلوا دماء بعضهم في سبيل الحكم الالهي والاستحواذ على السلطة، ولم تهدأ الامور في هذه المرحلة، الا عندما دخلت حركة طالبان المدعومة من باكستان الى العاصمة كابول وتسلمت الحكم عام 1998 معلنة تطبيق الشريعة الاسلامية السنية المتشددة، المعادية ليس فقط للشيعة وللصليبيين (اي المسيحيين)، بل لكل جهة داخلية او خارجية لا تعترف بحكم امير المؤمنين الملا عمر زعيم الحركة.
في هذه المرحلة مارست طالبان التشدد الديني والسياسي في اعلى مستوياته، مقتبسة المرحلة الخمينية الايرنية المتشددة، وبهذا فان سلطة ولاية الفقيه الايرانية الشيعية في ثمانينات القرن الفائت، كانت حافزا لطالبان كي تستنسخ في التسعينات، نظاما شبيها يتباهى فيه اسلاميو العالم السني، فلا تبقى نعمة الحكم الديني الاسلامي حكرا على الشيعة فقط.
ولما عادت طالبان وخسرت كابول وكافة المدن الافغانية عام 2001، بفعل الغزو الاميركي انتقاما من اعتداءات 11 ايلول ورفض طالبان تسليم المسؤول عن تلك الاعتداءات اسامة بن لادن، الذي كانت وفرت الاقامة والحماية له ولتنظيم القاعدة الارهابي الذي يتزعمه، فان خطأ بن لادن الجسيم هذا، انسحب على طالبان المبدئية العقائدية، وكان نتيجته أن ضحّت الحركة بمصالحها وبحكمها، ولم تجدِ وساطة الدولة الاقرب وهي باكستان، ولا المملكة السعودية، في ثني الملا عمر عن رأيه، ولم يقبل خيانة صديقه بن لادن، فتشتت هو وانصاره في الجبال والبلدان المجاورة، هربا من سطوة سلاح الجوّ الاميركي وصواريخ الكروز.
الدرس الايراني الثاني: الدبلوماسية
اذا كان الدرس الايراني الاول لطالبان كان التشدّد الديني والسياسي، وعدم المساومة في شؤون الحكم، فان الدرس الثاني الذي تلقته طالبان من ايران مطلع الالفية الثالثة، هو تعلّم ممارسة الدبلوماسية البراغماتية في اعلى مستوياتها.
فقد تفاجأ الملا عمر وحلفاؤه، باليد الايرانية الممدودة له ولتنظيم القاعدة، وهو في عزّ هزيمته، وقد تصوّر ان ايران لن تنسى ولن تغفر له ارتكاب مجزرة دبلوماسييها في مزار شريف، وفهم قادة طالبان الدرس جيّدا بأن ما جعل طهران تتقرب منهم، ليس الحنان ولا الشعور الانساني بالشفقة على حالهم، وانما هو مجابهة العدو المشترك اميركا، خصوصا بعد دخول قواتها الى العراق والاطاحة بنظام صدام حسين، فأصبح بذلك النظام الاسلامي في ايران محاصرا من الشرق والغرب.
غير أنه وكما ارتدّ درس التشدّد على ايران شرّا من طالبان عام 1998، فان الدرس الدبلوماسي الذي حفظه جيدا ملالي طالبان من ايران على مدى عشرين عاما، ارتدّ شرّا ايضا عليها، فقد استغنت الحركة عن خدمات ايران التي آوت عددا من مسؤوليها على اراضيها، لتستخدم بالمقابل الورقة الافغانية مادة لتفاوض طويل الأمد، بين طالبان واميركا التي لا تريد ان تظل عالقة في الوحل الافغاني الى أبد الآبدين، فكانت المفاجأة في دخول طالبان واميركا دونالد ترامب بمفاوضات مكثفة برعاية قطرية، ثم توقيع اتفاق الانسحاب في شباط 2020 بالدوحة.
وبذلك خسرت ايران ورقة افغانستان، ووجدت نفسها خارج اللعبة، بعد ان فاق التلميذ الطالباني استاذه الايراني في الوصولية والانتهازية السياسية، هذا وتعيش ايران كابوسا سياسيا منذ اسبوع، وهي تراقب انتصارات طالبان ودخولها الى العاصمة كابول، وخروج اميركا نهائيا من المستنقع الافغاني.
وبالمحصلة، اذا كانت غاية الحركات الاسلامية هي الوثوب الى السلطة والحكم دون النظر الى الوسيلة، فان حركة طالبان التي راقبت عن كثب تجربة جارتها ايران، تعلمت جيدا فن الدبلوماسية، واختارت وسيطها القطري وانتهزت الفرصة بنفسها، لتعقد سلاما مع الاميركيين وتحكم باسم الدين ارض الخلافة من جديد، ولكن هذه المرة يتحدث الملالي الذين خلفوا الملا عمر، عن التسامح والسلام وقبول الاخر المختلف، بدلا عن خطاب الاستعداء والحرب.