
ماذا يعني أن يكون نصف مفرداتك اليومية أو ثلثها أو ربعها من مفردات لغة أخرى أو شعب آخر، من دون أن تكون هناك علامة واضحة على أن هذه الحالة إلى زوال، كما هي إلى زوال مفردات اللغة التركية من التعامل اليومي للسوريين واللبنانيين والفلسطينيين والأردنيين، (بلاد الشام) ذلك أن التداخل بين الشعب التركي والشعوب العربية (حتى مصر) قد تراجع وهو في تراجع دائم، من هنا يأتي هجر المفردات اليومية والمصطلحات، إلا في منطق الحدود العراقية التركية والسورية التركية بحكم العلائق اليومية والوشائح القرابية.
أما شأن العراق مع اللغة الفارسية فهو أمر أشد تعقيداً، بل أن الوقائع التي حدثت مع الحكم البعثي الصدامي (القومي) قد فاقمت من هذه الوضعية، او هذه المشكلة بالمصطلح القومي. لأن عملية التهجير التي بدأت مع بداية حكم البعث في العراق، أي تهجير الإيرانيين من كل الفئات العلمية وغيرها، من ذوي الولادة والنشأة في العراق، ومعهم مئات الآلاف من العراقيين الأقحاح، الذين سبق لبعض أفراد عوائلهم أن حازوا على الجنسية الإيرانية تهرباً من الجندية في العهد العثماني، والذين لم يكن إلا قلة منهم يعرفون شيئاً من الفارسية كلغة، أما الباقون خاصة من أهالي كربلاء والنجف والكوفة والحلة، من الوسط إلى الجنوب، فقد كانوا يستعملون مفردات فارسية من دون أن يعرفوا أن أصلها فارسي، تماماً كما تستعمل الطبقات الشعبية المفردات العربية في إيران وهي تظن أنها فارسية الأصل.
اقرأ أيضاً: إيران إسرائيل من دمشق هناك مفاتيح للأبواب
هؤلاء جميعاً هجّروا إلى إيران لمدة ثلاثة عقود من الزمان، أضيف إليهم مئات الآلاف من الناس العاديين أو السياسيين وعوائلهم، هجّروا أثناء الحرب العراقية الإيرانية أو هاجروا فراراً بأرواحهم ليعيشوا في إيران أكثر من عقدين من الزمان، مضطرين إلى تعلم الفارسية، ومن كابر منهم أو عجز عن ذلك لم يستطع أن يستمر في حياته إلا بتعاطي الفارسية اليومية على خطأ ولحن كان ولا يزال مجلبة للنوادر والمفارقات المضحكة. هؤلاء عادوا أو عاد أكثرهم أو بعضهم إلى العراق، والباقون، أكثر الباقين ينتظرون أن تستقر الأحوال في العراق لكي يعودوا، علماً بأن كثيراً ممن عادوا بعد سقوط النظام، عادوا إلى إيران بسبب الوضع الأمني والمعيشي الصعب.
سقوط النظام
إلى ذلك… فإن العراقي الذي حوصر في جو من الرعب والجوع، على مدى ثلاثين سنة في بلده، وفقد عدداً من أعزائه أقارب وأقربين، قد امتلأ حزناً وضيقاً، وهو بعد سقوط النظام يبحث عن متنفس، فأين يذهب؟ موسم الحج محدود، والعمرة مكلفة، وهو ليس من الفئة أو الطبقة التي تذهب إلى قبرص أو اسكندينافيا لتسوح وتفرّج عن همها، وهو على مدى ثلاثين سنة فقد رموزه العيانية، قتلت مرجعيته الدينية والسياسية والاجتماعية، ومن تبقى حوصر، ومن استطاع هاجر، فلم يبق له إلا أضرحة أهل البيت متنفساً ومشكى ضيم، ومع ذلك منع من الزيارة وعوقب عليها، بل منع من التعبير عن حزنه لوفاة عزيز…
العراقي الذي حوصر في جو من الرعب والجوع، على مدى ثلاثين سنة في بلده، وفقد عدداً من أعزائه، قد امتلأ حزناً وضيقاً، وهو بعد سقوط النظام يبحث عن متنفس، فأين يذهب؟
فإلى من يذهب ليفرّج همه ويريح أعصابه ويتحرر من ذاكرته القريبة بذاكرة بعيدة؟ يذهب إلى السيدة زينب في الشام وعلى صعوبة ذلك وكلفته العالية، فإنه لا يكفي لأن الفرع لا يكفي عن الأصل، وفي إيران يرقد علي بن موسى الرضا ثامن أئمة أهل البيت والغريب رمز الغربة والغربات، والحياة لأيام أو أسابيع في إيران أيسر وأرخص وهناك مؤسسات اجتماعية ودينية تفعل خيراً مع الزوار الفقراء، وهناك أجزاء من الأسر ما زالت تقيم في إيران، تستقبل أهلها ولا تبخل عليهم. وهناك أضرحة في مقابر تمتد من إيران إلى قم ومشهد وأصفهان وغيرها، لأعزة من العراقيين الذين هاجروا أو هجروا، أبناء وأحفاد وأخوة وأخوات وآباء وأمهات وجدات وأقارب آخرين وأصدقاء وجيران، يتسلى العراقي المشحون بالحزن، المكبوت زمناً طويلاً بالفاتحة على قبورهم ويستعيد جزءاً من ماض ولى من دون أن يكون المستقبل واضحاً.
ومن الجهة الأخرى، هناك أكثر من ستين مليون شيعي إيراني يحج الواحد منهم إلى بيت الله وأن لم يحج، أي في الحالين يصر على أن يكون مظهر تكريمه وتبجيله هو مناداته بـ”الحجي” فإذا كان ذا مقام عال في العلم أو في رعاية الأسرة أو في المجتمع أو في الدولة، فإنه يزين وصف السيد بوصف الحاج فيقال له: “حجي آغا” وإلا اعتبر أن احترامه منقوص. أما إذا زار كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء، حيث مراقد الأئمة والشهداء وفروعهم، فإنه يختال على أهل حيه وقريته وأن كان لا يطالب بمناداته بلقب كربلائي، فإنه يوصي قبل وفاته بأن يكتب على ضريحه بالإضافة إلى اسمه ولقبه وصفته كحاج لقب كربلائي.
مرة كنت في قرية نائية من قرى خراسان تدعى “رياب” ولفت نظري نزاع بين مجموعة من الأطفال، فسألت مضيفي عن المشكلة، فقال: إن من بين الأطفال طفلاً يؤذي رفاقه، وهم يتبرمون منه ولا يستطيعون الرد على أذيته لهم بأذيتهم له، والسر في ذلك أن الولد مولود في كربلاء حيث كان أهله يقيمون قبل التهجير، ومن هناك يأتي حرج الأطفال وضيقهم، فكيف يمكن لهم أن يؤذوا من ولد في جوار الحسين.
الحنين والشوق
كان الإيرانيون متحمسين للتضحية بكل شيء في الحرب ضد العدوان عليهم من قبل النظام الصدامي ولكنهم بعد سنوات من الحرب قليلة أخذوا يتبرّمون لأنهم حرموا من الزيارة فترة طويلة، ولم يروا في إنهاء الحرب إلا الزيارة، وكان عدد من أبنائهم يمثلونهم في هذا الحنين والشوق، وعندما عمدوا في جبهة القتال أن يضعوا علامات على الطرق عليها كتابة لما تبقى من كيلومترات بينها وبين كربلاء، لم يكن ذلك يكشف عن نية استعمارية بل كان يكشف عن شوق دفين ومعتق إلى الزيارة، خاصة بعدما ساهمت دولنا المركزية المركزة على شخص واحد أو حزب واحد، أن تقنع أجيالنا بأن مثالها وراءها لا أمامها، وأن الماضي أفضل من الحاضر.
هذا بالنسبة إلى الإيرانيين يعني الزيارة بكل محمولاتها النفسية والدينية والمذهبية والسياسية، ولكنه بالنسبة إلى العراقيين، ودائماً كان العراقيون بحاجة إلى السياحة الدينية، خاصة في مدن الأضرحة التي عوقبت بجرعة زائدة من الحرمان والإهمال، فكان الزوار الإيرانيون ومعهم الخليجيون لاحقاً، بعد النفط، يحركون الحياة في هذه المدن وحولها، ينعشونها بسياحتهم وما يصرفونه وما يقدمونه من تبرعات لبناء المقامات والمساجد والحسينيات، وبالآلاف من طلاب العلم والعلماء الذين يتلقّون مصاريفهم من أهلهم، ويستقبلون مبالغ كبيرة من الحقوق الشرعية تصرف على الطلبة والفقراء والشؤون الاجتماعية المختلفة.
لقد وصلت أهمية الزيارة الإيرانية إلى أضرحة الأئمة في العراق إلى حد أنها ساهمت في حل النزاع الذي استمر قروناً بين الدولة العثمانية والدول الإيرانية المتعاقبة من الصفويين إلى القاجاريين، فتنازل الإيرانيون في السياسة وشؤون السلطة ليحافظوا على الزيارة وما تنتجه من نفوذ اجتماعي، ووافق العثمانيون لما في ذلك من إنعاش للعراقيين وتخفيف للعبء عن الدولة العاجزة أو المقصرة أصلاً. وبين فترة وفترة، حتى في عهد صدام، بعد الحرب، وبعد صدام أثّر الضغط الإيراني الشعبي من أجل الزيارة على الدولة الإيرانية، فعمدت أكثر من مرة إلى عقد اتفاقات تنظم قوافل الزوار مع الإدارة العراقية.
من هنا تسمع في كلام العراقي اليومي (استكانة لكأس الشاي، وسبزي للسبانخ، وفسنجون لمرق الجوز، ودوغ للبن الرائب ممزوجاً بالماء، والقيمة لمرق الحمص، وتفتون للخبز السميك، وحِطل لماعون الطعام، وشنكال لشوكة الطعام، وخاشوقة للملعقة، وجعفري للبقدونس، وشبنت للشومر، وخوب اي حسناً، وآغاتي أي سيدي، وفلكة للساحة أو المستديرة، وماي لحم ترجمة آب غوشت، ومارماهي للحنكليس) ، إلى غيرها من المفردات والتركيبات والجمل التي تطابق النحو والصرف الفارسي لا العربي: من قبيل خوش قدم أو مقدم، وخوش عمل، أي تقديم الوصف على الموصوف.
أما الإيراني فإنه بمجرد أن يعرف أنك عربي فإنه يفترض أنك عراقي، ويأخذ في استعمال الكلمات العراقية مركبة تركيباً عجباً يثير الضحك، وفي القرية التي ذكرتها من أقاصي خراسان، سأل أحد السكان صديقي عمن أكون، فأجابه بأني لبناني، فسأله: وهل لبنان جزء من إيران؟ فأجابه: لا إنه عربي، فما كان من الرجل إلا أن سألني وهل أنت أسير عراقي!!!
هل تتدخل إيران في العراق؟
تتدخل إيران أو لا تتدخل، هذا تداخل تاريخي وجغرافي واجتماعي وأسري ويومي واقتصادي لايمكن منعه ولا قمعه، فهل تترتب عليه أفعال سياسية موازية له حجماً ونوعاً؟ قد تترتب وقد لا تترتب، فإن ترتبت فلا بد من فهمها وقياس حجمها، لا بد من تسليم عربي بهذا الواقع، وحفظه، أي رسم حدود له، بالتفاهم، وقبل التفاهم الكف عن اعتبار المسألة أيديولوجية قومية فارسية أو نزوعاً شيعياً إلى الفارسية أو الإيرانية.
سأل أحد السكان صديقي عمن أكون، فأجابه بأني لبناني، فسأله: وهل لبنان جزء من إيران؟ فأجابه: لا إنه عربي، فما كان من الرجل إلا أن سألني وهل أنت أسير عراقي!!!
وهنا أمور لا بد من التوقف عندها، فتجربة إيران مع خوزستان حتى الآن لم يحدث فيها ما ينسي عرب خوزستان السنوات المرة مع النظام العنصري الشاهنشاهي. وتجربة العراقيين المهجرين والمهاجرين الاجتماعية والمعيشية والسياسية في إيران قبل الحرب العراقية الإيرانية وأثناءها وبعدها ليست إيجابية إلا في حدود . وإن كانت لا تستدعي القطيعة أو العداء ، والانزعاج منها حتى الجزع يعقد الأمور، وعدم البحث فيها يعقد الأمور أيضاً… ويبقى المشروع العربي للعراق هو الضمانة الحقيقية للوطنية العراقية وعروبة العراق والإبقاء على اللازم وغير الضار من الحضور الإيراني في العراق.
اقرأ أيضاً: الإشكالية المنهجية للتطبيق الفقهي (إيران مثلاً)
إلى ذلك فإن استقرار العراق وأمنه وحيويته الاقتصادية والانفراج المعيشي فيه، أي استكمال العملية السياسية، وإخراجٍ المحتل بقدر أو بآخر، وبإجماع وطني ووحدة وطنية وواقعية سياسية، وبعيداً عن الإرهاب والتباس المقاومة بالإرهاب والتباس التحرير بالاحتلال، كل ذلك من شأنه أن يضع العلاقات الإيرانية في السياق الصحيح الشبيه، على فوارق لا بد من مراعاتها، بالسياق الذي وضعت فيه العلاقات الإيرانية العراقية، وبمشاركة من علماء الحوزة الكبار، بعد النزاعات الدموية بين الإيرانيين والعثمانيين على العراق، لأسباب تعود أساساً للتناقض بين الدولة الصفوية والدولة العثمانية ثم العثمانية والقاجارية بعدها ، بعدما كانت بداياتها متفاهماً عليها قبل معركة جالديران،.. بحيث سلمت إيران بالسلطة للدولة العثمانية وسلمت الدولة العثمانية لإيران بنفوذ اجتماعي مفيد للجميع.
في هذا كله تشكل الرعاية العربية للشأن العراقي، أي رعاية الدول العربية، مصر والسعودية أولاً ومعهما دول الخليج، دافعاً ومساعداً للعراق على تحقيق حالة من الوحدة والحصانة، ويبعث إيران على حسابات أكثر تدقيقاً ومراعاة لمصالحها ومستقبلها مع الدول العربية.
(2004)