لم يحقّق فيلم “عودة الإبن الضال” الى كنف الدولة والقضاء بنسخته “الحزب الإلهية” الجديدة، أي نجاح يُذكر على شبّاك تذاكر كارثة المرفأ، بسبب المبالغة المُفرطة وغياب الحبكة والإخراج السيّئ! ولا يُمكن للأموات قبل الأحياء، أن تنطلي عليهم حيلة “حزب الله” بمجرّد أن أخفى سلاحه تحت ثيابه، وبأنّه بين ليلة وضحاها آثر لـ”وجه الله” أن يحتكم الى المؤسسات، وهو من أكبر الأدوات التدميرية لها تاريخياً التي ضرب بها عرض الحائط ومن لا يعجبه ( يخبط رأسه به) على المستويات كافة، وتحديداً المؤسسة القضائية التي ارتمى في أحضانها أخيراً.
هذا كلّه لا يُلغي الأهداف غير البريئة الكامنة وراء تقدّمه عن غير وجه حقّ وصِفة، بسلسلة دعاوى “ترهيبية” قضائية بحقّ كلّ من “تجرّأ” على وضع “حزب الله” في دائرة الإتهام في جريمة المرفأ، ويحقّق بائساً من وجهة نظره دفع التهم عنه وإيصال رسائل دموية بقالب قضائي كإنذار.
اقرأ أيضاً: عندما يلجأ «حزب الله» الى القضاء
فالإدّعاء على الدكتور فارس سعيد وموقع “القوات اللبنانية” من قبل “حزب الله”، يعكس حالة مستجدّة لدى الحزب الذي لم يألف اللبنانيون مشهد لجوئه الى السلطة القضائية من أجل تحصيل حقّ أو دفع ظلم، كما لم يشهدوا ايضاً حالة من حالات مثول أحد عناصر الحزب أو مسؤوليه امام قوس العدالة في موقع الإتهّام (باستثناء “مسرحية” مثول أحد عناصره مصطفى المقدّم الذي قتل الملازم أول في الجيش سامر حنّا اثر إسقاط طائرته في تلّة سجد العام 2008، وقضت المحكمة العسكرية بسجنه 8 أشهر، وقضى في سوريا العام 2014)، اذ طالما كان قادراً على تفادي ذلك، مُستفيداً من سلطته وسلطانه العسكري والأمني في منع وصول العديد من الملفّات الى القضاء، كما حصل في قضية مشهورة ومعروفة، متمثّلة في اغتيال هاشم السلمان امام السفارة الإيرانية في بيروت قبل نحو سبع سنوات، هذه القضية التي ستظلّ مثالاً صارخاً على مدى قدرة حزب على التحكّم بمسار التحقيقات الأمنية والقضائية، وتكشف هشاشة الدولة وسلطاتها امام “هيلمانه”.
يمكن الحديث عن عشرات الشواهد التي تُظهر “حزب الله” كطرف فوق سلطة القضاء، بل كالمتحكّم بمسارات العدالة التي يعمل على استخدامها في مواجهة الكثير من خصومه السياسيين والمواطنين العاديين، من خلال أزلام وتابعين، يدفع بهم من أجل الإدّعاء، ويتحكّم بمهمّة تسيير الأجهزة الأمنية والمعنية من أجل الدفع باتّجاه تحقيق ما يصبو اليه، ونموذج الإدّعاء على المفتي العلامة السيّد علي الأمين خير شاهد ودليل.
وللعلم، لِمن لا يعلم بعد، إنّ الأجهزة الأمنية والمخافر في المناطق يُمنع عليها استدعاء أو توقيف أي عنصر ينتمي الى “حزب الله”. بل أكثر من ذلك، يمنع الحزب عناصره من تلبية أي استدعاء من أي مخفر أو جهة أمنية، مهما كان السبب.
ناهيك عن المحكمة الخاصة بلبنان وما أُحيط بها، في اعتبار أنّ هذه المحكمة “مؤامرة دولية” بحسب ما قال النائب ابراهيم الموسوي أخيراً أمام قصر العدل، مُستشهداً بما قاله قائده السيّد حسن نصرالله. وليس هنا مجال لاستحضار ما جرى مع مقتلة عين بورضاي والتي ذهب ضحيتها الشيخ خضر طليس العام 1998، ولا الأحكام التي صدرت بحقّ الشيخ صبحي الطفيلي من دون أن يمثل أي عنصر أو مسؤول من “حزب الله” أمام القضاء. الشواهد عديدة في هذا المجال، وما خُفي كان أعظم، وهو ما يتلمّسه الكثيرون ممّن يخطر في بالهم أو يتجرّأون على اللجوء الى القضاء اللبناني اذا كان الخصم عنصراً من الحزب أو مسؤولاً فيه!.
الإدّعاء على رئيس “حركة المبادرة الوطنية” فارس سعيد، بحسب النائب الموسوي، هو لاتّهامه الحزب بالوقوف وراء كارثة المرفأ في بيروت في الرابع من شهر آب المنصرم. ومن دون الدخول في أحقّية الاتهام أو عدمه، يمكن ملاحظة أنّ “حزب الله” الذي طالما أظهر قدرات على “كشف المؤامرات” و”فضح محيكيها” واستطاع أن يفكّك “شبكات ارهابية” و”شبكات اسرائيلية وأميركية” وحقّق انتصارات على امتداد المشرق العربي، وربما مغربه ايضاً، يتعامل مع انفجار المرفأ كأيّ مواطن لبناني عادي، لا بل تفادى اتّهام اسرائيل، ثم عاد وأدرجها نصرالله من ضمن الإحتمالات، ولكن بخجل، أعقبه صمت مريب حيال التذكير باحتمال قيامها بجريمة المرفأ.
بهذا المعنى تكمن الشبهة القوية على الحزب، وإن لم يكن متورّطاً، فهو لديه مسؤولية في تقديم معلومات للمحقّق العدلي. فلا ريب ولا أدنى شك انه على دراية بما كان يجري في المرفأ، ومن يحكم ومن يسيطر ومن يفسد ومن يتواطأ، لا سيّما أنّ عدداً من عناصره سقطوا ضحايا في انفجار المرفأ، كما قال أمينه العام غداة الإنفجار. واذا كان من اتّهام للحزب، فهو ناشئ من معرفة اللبنانيين أنّه باسم “المقاومة” كان يدخل الى المرفأ، وباسم المجلس الشيعي كان يستورد بضائع من الخارج مُستفيداً من الإعفاءات الجمركية، وفي اعتبار المرفأ أهمّ نافذة تجارية وربّما أمنية لبنانية على الخارج، فمن الطبيعي بحسب ما يقدّم نفسه “حزب الله”، أن يكون لديه الكثير مما يفيد به التحقيق بشأن الإنفجار الكارثي وخلفياته. لذلك، فإنّ عدم تقديمه لهذه المعلومات هو اتهام بل ادانة له. ومن هنا، فإنّ توجيه أصابع الاتّهام له حول انفجار المرفأ، يبرّره ايضاً كل هذا الدور الذي يقوم به أمنياً وعسكرياً على كلّ المعابر الشرعية وغير الشرعية وعلى كل الحدود اللبنانية وما بعد الحدود. والأهمّ من ذلك كلّه كونه فعلياً سلطة الوصاية على الدولة التي صارت دويلة امام مهام وصلاحيات دويلته التي تجاوزت حدود الدولة وسيادتها.
اللجوء الى القضاء قد يكون خطوة ايجابية من “حزب الله”، كما قال مسؤول الدائرة الإعلامية في “القوات اللبنانية” شارل جبور، لكنّ هذا اللجوء يأتي من خارج السياق الذي رسّخه الحزب الذي لا يزال حتى اليوم وهو في قلب الدولة وعلى رأسها فعلياً، يرفض أن يكون حزباً كبقية الأحزاب اللبنانية، خاضعاً لقانون الجمعيات، من خلال إصراره وتمنّعه عن تقديم علم وخبر الى وزارة الداخلية والبلديات. وهذا هو بيت القصيد… “كما تكونون يُولّى عليكم”!