عندما كان هشام الهاشمي يشرح ويفصّل ما يعرفه عن تنظيم “داعش”، كانت الدولة العراقية في حرب على هذا التنظيم لاقتلاعه واستعادة الأرض من “دولته” المزعومة، وفي الأثناء كانت ميليشيات “الحشد الشعبي” منخرطة في الأعمال القذرة الموازية لتلك الحرب سعياً الى تثبيت موقعها في النظام العراقي، ومراكمة المكاسب على حساب الدولة، وتغليظ سطوتها على سكان المناطق التي كانت “داعشية” ولم تعد.
تلك الحال التي أقامها “الحشد” ذهبت بعيداً في منافسة الدولة وتجاوزها، مستندة الى أن رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان موجودون في مناصبهم برضا إيران وإرادتها وبالتسويات التي تهندسها وترعاها وتراقبها. وقد تعايش أولئك الرؤساء مع أمر واقع قوامه وجود جيشين، حكومي بإمرة رئيس الوزراء وميليشيوي بالإمرة نفسها نظرياً لكنه بإمرة إيرانية عملياً، رغم أن السلطة اضطرّت لشرعنته وتمويله بقانون أخرق أقرّه البرلمان بناء لتوافقات على إنشاء “حشد” شيعي وآخر عشائري أي سني، بالإضافة الى فصائل لأقليات أيزيدية ومسيحية وتركمانية وغيرها. ومع أن هذا القانون يلحظ انضواء الميليشيات تحت قيادة القوات المسلّحة، إلا أن الشيعية منها لم تمتثل. ويفيد هشام الهاشمي بأن الدولة سلّمت الى الميليشيات الشيعية وحدها أسلحة فوق المتوسطة، بشرط اعادتها بعد انتهاء الحرب. ليس فقط أنها لم تسلّمها بل ان إيران مدّتها بالدبابات والصواريخ لتعزّز تمرّدها على أي قرارات حكومية لاحتوائها.
اقرأ أيضاً: الوجه الآخر لاغتيال الهاشمي
هذا ما حصل مع عادل عبد المهدي، رغم أن قراراته ظلّت صُوَرية ولم تعكس إرادة حقيقية في حلّ مشكلة “الحشد” الشيعي، بل كانت مجرّد استجابة شكلية لضغوط داخلية وأميركية هدفها “حصر السلاح في يد الدولة”. وكان مطلوباً من أي رئيس وزراء يخلف عبد المهدي، بعدما اضطرّت طهران للسماح له بالاستقالة، أن يحافظ على الوضع الشاذ كما هو، إلا أن أيّاً من مرشحي الكتل الشيعية للمنصب لم يبدُ مقبولاً. كانت شوارع بغداد ومدن المحافظات الشيعية دخلت انتفاضة شعبية عارمة، وأصبحت هي مصدر “الشرعية”، فلم يعد في الإمكان تجاهلها. ثم أن الاغتيال الأميركي لقاسم سليماني زأبو مهدي المهندس زاد الارباك الإيراني في العراق فيما كانت آفاق الخروج من الأزمة قد سدّت، لذا وافقت على مضض على ترشيح مدير المخابرات مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزراء، الذي كانت تعتبره “رجل اميركا” بل ان أتباعها يتّهمونه بالتواطؤ في اغتيال سليماني.
مواجهة بين القوات الحكومية أو اقتتال شيعي – شيعي
منذ عامين على الأقلّ، تحديداً منذ انتهاء الحرب على “داعش”، أصبح الوضع العراقي الداخلي مفتوحاً على خيارين أو على أحدهما: مواجهة بين القوات الحكومية، أو اقتتال شيعي – شيعي، مع ترجيح للأخير. كثيرون اعتبروا أن اندلاع الانتفاضة الشعبية في الأول من تشرين الأول (اكتوبر) 2019 كما لو أنه “بديل” من أيّ مواجهة. وفيما راوحت قوات الحكومة وأجهزتها بين قمع المتظاهرين و”حمايتهم” بحسب مَن شخص الضابط المكلّف وانتمائه، ذهبت الميليشيات بالقمع الى درجة القتل فضلاً عن الخطف والتعذيب. أكثر من 700 قضوا بالرصاص، وآلاف عدة أصيبوا بينهم نسبة كبيرة ممن أصبحوا بعاهات دائمة. لم ترَ إيران في الانتفاضة سوى “مؤامرة أميركية” على نفوذها ومحاولة لتصفية ميليشياتها، لكن تركّز الانتفاضة واقتصارها على البيئة الشيعية دلّا الى أن شعبية نفوذها وميليشياتها هبطت الى الحضيض. لذلك بدا قبولها الكاظمي نوعاً من التنازل الاضطراري لتمرير مرحلة ولتقليل الخسائر.
اغتيال هشام الهاشمي
في كل المحطات، من ترشيحه الى تعيينه الى الموافقة على حكومته الى قراراته الأولى، لم يتوقف الكاظمي عن الإصرار العلني على “استعادة سيادة الدولة وهيبتها” وعلى “حصر السلاح في يد الدولة”. ثمّة مسافة بين القول والفعل، وفي هذا الاستحقاق لا يمكن القبول بقاعدة “الممكن والمستحيل”، فإمّا دولة أو لا دولة. لكن هذا المنطق لا يستقيم مع إيران، لا في العراق ولا في سوريا أو في لبنان واليمن، إلا إذا كانت الدولة تحت سيطرتها. من هنا أن رهان الكاظمي كان جريئاً وصعباً وطموحاً، فما أن أعاد الفريق الركن عبدالوهاب الساعدي الى رئاسة جهاز مكافحة الإرهاب حتى استؤنف اطلاق الصواريخ على القواعد العسكرية والمطار والمنطقة الخضراء، وما أن اعتقل جهاز مكافحة الإرهاب عناصر من “كتائب حزب الله العراقي” (بينهم لبناني) حتى تحرّك قضاء “الدولة العميقة” فأفرج عنهم لـ “عدم كفاية الأدلة (!) ضدّهم”، وما أن أُعفي فالح الفياض من رئاسة جهاز الأمن الوطني حتى اغتيل هشام الهاشمي الذي كان المسؤول الأمني لـ “كتائب حزب الله” هدّده بقتله “في منزله”.
يوم كان الهاشمي يخصّص كتاباته ومداخلاته المتلفزة على تنظيم “داعش” كان قادة “الحشد” يستقبلونه ويمتدحونه، لكنه صار مهدّداً يوم انحاز الى جانب الدولة التي أصبح “الحشد” خصماً لها وليس شريكاً. وكما غاص في دواخل “داعش” وكشف آليات عمله وتلقّى منه تهديدات، كذلك بدت دراسته الأخيرة عن “الخلاف الداخلي قي هيئة الحشد الشعبي” نسجاً على المنوال نفسه، خصوصاً بتركيزه على “الفصائل الولائية” (المعتمدة ايرانياً)، وصولاً الى “خلايا الكاتيوشا” التي حدّد “كتائب حزب الله” كرأس حربة لها. ولم يكن ما كتبه سوى الجزء الذي أتاحت الأجهزة للباحث العراقي نشره، وهو القريب منها، بل كان مستشاراً للكاظمي وهو ما جعل كثيرين يعتبرون اغتياله تهديداً واستهدافاً له شخصياً.
عشية اغتيال الهاشمي كان “مصدر أمني” يقول للصحافيين أن الهدف الآن هو “إنهاء دور الميليشيات وتهديداتها” بدءاً من بغداد وصولاً الى المنافذ الحدودية التي يسيطر عليها بعض الفصائل ويتخذها مصدراً للتموّل. ورغم ضربة الاغتيال الموجعة والضغوط التي شكّلتها على الكاظمي تجاه مؤيديه قبل خصومه، فإن الأخير يبدي تصميماً على المضي في برنامجه من دون أن يتعجّل المواجهة. لذلك قصد، بعد خمسة أيام على الاغتيال، معبرَي مندلي والمنذرية الحدوديين مع إيران في محافظة ديالى ليشرف مباشرة على ترتيبات ضبط العمل وأولها استبدال القوات الأمنية العاملة في تلك المواقع.
عشية اغتيال الهاشمي كان “مصدر أمني” يقول للصحافيين أن الهدف الآن هو “إنهاء دور الميليشيات وتهديداتها”
هذه الحملة لضبط المنافذ مستفزّة للميليشيات وقد تؤدّي الى صدامات معها، لكنها ليست أساسية بالنسبة الى إيران، بالأحرى ليست “استراتيجية” كما هي مسألة الوجود الأميركي في العراق. فما يقلقها أنها للمرة الأولى ليست مطّلعة على ما يدور في الحوار الاستراتيجي بين واشنطن وبغداد، لكنها تحليلها لأداء حكومة الكاظمي لا يوحي بأن ذلك الحوار سيأخذ في الاعتبار مطلبها منذ اغتيال سليماني بأن يكون هناك انسحاب أميركي وشيك أو قريب، سواء لأن بغداد تحتاج الى الدعم الأميركي في الحرب المستمرة على فلول “داعش” أو لأن واشنطن تريد البقاء وفقاً للتموضعات الأخيرة لقواتها ولمواصلة تقوية الدولة العراقية وقواتها المسلحة. لا شك أن إطلاق الصواريخ كان رسائل من إيران الى الكاظمي كي يجنح الى تفاهمات معها، لكن الكاظمي يتهيّأ لزيارة واشنطن وتوقيع الاتفاق معها. هل سيكون هذا الاتفاق شرارة إشعال المواجهة بين الدولة و”الحشد”، في كل حال، إيران سترد عبر أدواتها أيّاً تكن التداعيات.