الديموقراطية.. قدر إيران

إن المسؤول عن الجدل الحيوي بين الحرية والقانون والديموقراطية والمركزية في إيران هو الإمام الخميني بالإضافة لأشواق الشعب الإيراني إلى الانعتاق والتحرر من مكبوتاته التي تراكمت طوال عهود الاستبداد السابقة.

في البداية تلقى الإمام رسالة من أحد أكبر علماء إيران، وكان له في نفس الإمام تقدير خاص، نصح فيها الإمام بأن يختار عدداً من كبار العلماء والمفكرين لإدارة البلاد، ريثما يكون الشعب الإيراني قد تأهل لممارسة اختياره، ورد الإمام بأن تأهيل الشعب لا يتم إلا من خلال الممارسة العاجلة لهذا الاختيار، فلا بد من الانتخاب.. وبعد انتهاء ولاية السيد علي خامنئي الأولى في رئاسة الجمهورية، كانت الحرب العراقية الإيرانية قد وصلت إلى مستوى الصواريخ التي ضربت المدن، وهدد النظام العراقي بمزيد من الصواريخ، لعرقلة عملية الانتخاب، وسمع الإمام نصائح من مقربين، بأن يمدد للسيد خامنئي توفيراً على الناس والدولة. فأصر الإمام على إجراء الانتخابات لأن التمديد إذا حصل سوف يكون سابقة يتأسس عليها موقف استنكاف شعبي، لأن ذاكرة الإيرانيين ما زالت موصولة بأساليب العهد السابق، إذن فلن يعود بإمكان الدولة أن تجدد الدم الديموقراطي لدى الشعب… وحصلت الانتخابات وشهدت إقبالاً ما…

اقرأ أيضاً: إيران: الاعتدال هو الحل

وفي الوقائع الجديدة أن السيد علي خامنئي تصدى للأجهزة الرسمية والآراء المتشنجة التي تعاملت مع قضية الشابين اللذين كتبا “المسرحية” موضع الجدل. حول المهدي المنتظر ودافع عنهما ورفض التشنج ودعا إلى التروي والبحث عن الدوافع والأسباب المخففة بمسؤولية وروية ووجه نقداً أدبياً إلى كاتبي المسرحية.. وقبل ذلك كان هذان الشابان قد سمعا لغطاً أولياً حول المسرحية، فاتصلا بوزارة الأمن وطلبا أن يتم توقيفهما بهدوء منعاً للفوضى.. وهكذا كان.. إذن فالإمام رفع الديموقراطية في إيران من خيار سياسي إلى قدر اجتماعي، أفسح في المجال لتطور اجتماعي أنتج رئاسة السيد خاتمي بهذا الإقبال الشعبي، ما يعني أن الديموقراطية قد أصبحت من المكونات الأساسية للمجتمع الإيراني.. وقصارى القوى السياسية والدولة أن تتحاور مع هذا المكون أو تتجادل أو تتساجل، أما أن تمنع وهنا تكون الفضيحة ويبدأ الخطر على الدولة والمجتمع والمستقبل ، وفي القناعات المنقولة عن الإمام، إن الديموقراطية يمكن أن تفسح في المجال لممارسات وتعبيرات سلبية ومنحرفة أحياناً، ولكن الانحراف عن الديموقراطية هو أخطر من كل تعبيراتها السلبية المحتملة. من يغلب في الاتجاهات النيابية القادمة؟

مسألة استكمال العدة الديموقراطية

إيران ليست مرشحة لانقلاب فجائي، بل هي مرشحة لاستمرار التطور الديموقراطي في دولتها واجتماعها أو تراجعه ككل بلاد العالم . والمطابقة المتأنية بين أي تطور سياسي وأي ظاهرة تترتب عليه أو هو يقتضيها وكذلك بين الوعي الاجتماعي وموجباته السياسية ، أو الفصل التعسفي بين الظروف والمعطيات المستجدة ومقتضياتها .

أنا لا أستطيع أن أجزم بغلبة طرف على طرف في إيران، مع عدم حماسي إلى التمييز الصارم بين الأطراف حتى الآن. ويمكن أن نميز بين الأفراد من هذا الصف أو ذاك الصف وداخل الصف الواحد.. مع ضرورة التنبيه إلى ضرورة إبداء حرصنا على استمرارية التنوع أو التعدد، حتى لا يخسر المجتمع والدولة بعض ألوانه الضرورية في اللوحة، التي لا يجوز أن تعود قسراً ولا طوعاً إلى اللون الواحد، لأن ذلك يستدعي عنفاً ويختزن عنفاً ويلغي الاحتمال الديموقراطي، هذا من دون أن نسقط احتمال غلبة ما للتيار الديموقراطي على التيار المحافظ أو العكس من دون ضرورة أو مصلحة في إلغاء أي طرف للأطراف هذا إن أمكن ذلك. وقد يقع المحافظون في إغرائه أكثر بكثير من احتمال وقوع الإصلاحيين . ومن دون أن يلغي ذلك ضرورة الحذر والتحذير.

يبقى أن ولاية الفقيه مسألة مركزية، صحيح، ولكن أكثر الإيرانيين مسكونون بهاجس تحويلها من فكرة قابضة في لحظة حرجة، إلى فكرة حافظة في لحظة مفتوحة، يعني أن الجدال او الحوار ميداني أكثر مما هو نظري

والمسألة هي مسألة استكمال العدة الديموقراطية.. وهنا يتركز الكلام على أهل السلطة المباشرة، في الدولة وفي المعارضة، وأن لا يستخدموا سلطاتهم ونفوذهم في تعويق العملية الديموقراطية، في المصادرة والاختزال، تحت شعارات ثورية، أصبح لزاماً على الجميع التدقيق في صوابها أو مطابقتها مع اللحظة الراهنة أو احتمالات المستقبل.

هذه الحركة المشدودة إلى المزيد من التوازن والاعتدال والتوسط والموازنة، لدى عدد من كبار القادة والمسؤولين حتى من بعض المحافظين، قد تؤكد وقد لا  ، أن الخلف يتبصر بمقاصد السلف، وهما أساساً كانا وما زالا في تكوين شعبها الممتلئ بالحيويات، المتطلع إلى تقديم أمثولة شرقية في استواء التعدد على نصاب الحرية والحوار والوحدة ويبقى عليهم أن يطوروا مرجعيتهم في المنظومة الفكرية والعقدية إلى مستوى استيعاب إرادة الناس والمتغيرات العميقة.

اقرأ أيضاً: الدور الإيراني في اتجاه أوروبا والعرب والتسوية

فكرة قابضة

يبقى أن ولاية الفقيه مسألة مركزية، صحيح، ولكن أكثر الإيرانيين مسكونون بهاجس تحويلها من فكرة قابضة في لحظة حرجة، إلى فكرة حافظة في لحظة مفتوحة، يعني أن الجدال او الحوار ميداني أكثر مما هو نظري. وأما أن مجلس مراقبة الدستور مخوّل أو غير مخوّل، في المصادقة على الترشيحات والمرشحين، فإن الجدل حول هذه المسألة لم ينته ولن ينتهي خاصة إذا ما ضاقت مساحة الديمقراطية تحت ضغظ عشق السلطة.. وتعبير الإصلاحيين والمحافظين لا يختزل حيوية الجدل والحوار.. إذ من الملاحظ أنه في صف كل من الطرفين أفراد وجماعات يطلون على الطرف الآخر وأفكاره، ويضيفون إلى المشهد الإيراني المزيد من الحيوية والنسبية والوعد بإنتاجية سياسية وفكرية جديدة ونامية. على أن يأخذوا في اعتبارهم، أن الأجيال الفتية في البلدان المحيطة بهم قد أحبطت بالتقابل الحاد والاختزال والتهميش، ولم يعد هناك في منطقتنا مكان لتجديد الأمل بالغد إلا من خلال أصحابه الحقيقيين أي جيل العلم العميق والهم الثقيل والشعب المقهور المنتظر فرصة ليخرج من القمقم والسجن وحافة القبر .. ويجري بقوة وشجاعة وصبر باحثاً عن معادلة الخبز والحرية ، والحق والواجب . وقد تكون إيران التي يجب أن تتجدد باستمرار بتجدد أجيالها ووعي هذه الأجيال لوظيفتها السياسية والحضارية ساحة من ساحات الحراك نحو دولة الأفراد الحديثة الديموقراطية شكلاً ومضموناً ودائماً ، مع قدرة متنامية على معالجة سلبيات التطبيق الديموقراطي بالديموقراطية . ولا شك أن أي حراك شعبي إيراني نحو مزيد من الحرية والتقدم والعدالة والتداول سيكون له أثره المحمود على محيطها وأعماقها .. وإذا كان العكس صحيحاً ، فلا بد أن تنتظر إيران مؤثرات تأتيها من محيطها وتلزمها بالديموقراطية إن لم يلتزم حكامها بها .

(16/10/1999)

السابق
فرنسا تُناشد سياسيي لبنان: البلد يمر بأسوأ أزمة منذ الحرب الأهلية.. عليكم بالعمل!
التالي
الدولار يُجدد إنخفاضه المسائي.. كم بلغ سعر الصرف؟