وأنت في سبيل التاريخ لشخصية مرموقة من جبل عامل، عليك الترحال في شعاب الأخير، وهي معقدة يصعب فيها المسير، وليست سوى قرون قليلة حتى تلتبس عليك الجهات ويمتد الضباب أمامك كالجدار، ثمة من غامر في الرحيل وعاد بأوراق لا توازي مشقة الطريق، ولكنه في محاولاته كان يضيف جديداً، وينشر بعض الضوء في الدهاليز، ويكتنه شيئاً من الحقائق التي ظلت مجهولة لوقت طويل.
ولكن ماذا في تلك الأوراق القليلة من غابر القرون في الجيل العاملي؟ وهل يمكن أن تشكل تاريخاً فعلياً له… لحياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، فضلاً عن السياسية تحت وطأة الأزمنة التي مرت عليه عاصفة، مترعة بالظلم والمعاناة؟
اقرأ أيضاً: قلاع الجنوب: جبهت التاريخ… وأهملها الحاضر!
ليس من تفاصيل في هذا السبيل، ولكنها ملامح نقرأ صداها في الحاضر الذاهب من دون تكلف في ذلك التراث المبتور والمتقبس حتى اللغة والأسلوب منه، خلافاً لمقولة ميشيل فوكو، بأن “التاريخ لا يُكتب بلغة الحاضر ولكن هذا يستلهم منه. فنحن إذاً أمام تاريخ مختلف، مكتوب، ومنذ البداية، بسيف وقلم، وقد يختزل الثاني المعادلة عندما تمتلئ المحابر بالدماء وتمتشق الأرض زيتونها وتبغها سلاحاً في وجه الظالمين. فلا يبقى من خيار سوى المقاومة تتراءة لك متوهّجة بين السطور إن خانتك قراءة الأخيرة بوضوح.
هكذا التاريخ العاملي بأوراقه المكتوبة أو المروية أو الضائعة، أو تلك التي التهمتها النيران… تقرأه في دفاتر العلماء الذين خطوا بأقلامهم النهر، ونثروا القوافي كالأزاهير على ضفافه وأفاحوا بعيداً في مساره، يقتفون “الهجرة”، ويستنيرون بالنهج ويراكمون المصنفات والرسائل، وهم بعد يجتهدون ويتمردون على الجمود، ويثورون على الظلم، والشهادة تتراءى لهم عن كثب فلا تثنيهم عن المسير، والتشيع الذي انطلق تياراً يتصدى للانحراف، وكانت الثورة في مفهومه تقترب من أركان الدين، والنضال في سياقها من أجل مبدأ هو الإسلام، لم يزل بهذا النهج حاضراً في الجبل العاملي الذي أكتنه بعمق حركة الحسين في بعدها الإنساني، ولم تأخذه الطقوس عن القراءة الموضوعية للثورة الفريدة في التاريخ.
ملمحان بارزان
من هذا الباب نراود التاريخ العاملي، وإذا بنا أمام ملمحين بارزين، إن لم نقل أساسيين: العلم والمقاومة، وكلاهما مكمل للآخر ومتحد معه، يفسره بشيء من التبسيط أن يكون أول العلماء المدوّنين على صفحة ذلك التاريخ، حاملاً لقبه الذي غلب اسمه، عنيت به الشهيد الأول، هذا الالم الفذ المؤسس للحركة العلمية التي أصبحت من سمات شخصية الجبل العاملي في تاريخه الحديث، ومن ثم رسّخ مفهوماً لدور الفقيه، بأنه ليس فقط ذلك المقيم بين كتبه والساجد أمام محرابه، ولكنه أساساً القائد والمنظر والثائر، والموجّه لحركة المجتمع في خطها الإصلاحي ضد الجهل والتخلف، وليس أخيراً ذلك الذي يأتي إليه السلطان، ولا يتعمد هو الركوب إليه… هذا المفهوم الذي أرساه الإمام الصادق، منطلقاً وفي وعيه “النهج”، والثورة الحسينية في وجدانه، يصو الدور الانموذج للفقيه المجاهد بقلمه حين يتعذر اللجوء إلى السيف، فكان أستاذ عصره، مؤثّراً في تياراته، من دون أن يكون الحاضر فقط ما يهجس به، ولكنه خاطب الأزمنة الآتية وخط على مداها طريق الحرية والعدالة.
ولا نملك في الواقع معطيات موثقة عن وصول تلك الحال إلى جبل عامل، ولكننا نقرأها في الوعي التاريخي للأجيال، من دون التوقف طويلاً عند رحلة الغفاري وأخبار أخرى تتصل بأسباب التشيع العاملي وظروفه وزمانه. فالتشيع المفعم بالروح الحسينية قديم العهد في هذا الجبل، وربما امتد إلى العهد الأمور الذي تأسس في بداياته هذا التيار، رافضاً الانصياع لسلطة الظلم. فقد ألفت هذه نفي المعارضين لها إلى أماكن بعيدة أو طرفية بالتحديد، وإشغالهم بحملات مفتعلة لصرفهم عن مقارعتها وإثارة المتاعب لها. فلعل التشيع العاملي نشأ في هذا السياق، خصوصاً وأن أصوله اليمانية تعزز العلاقة الوثيقة مع القبائل الكوفية التي شكلت مادة التشيع وكانت في غالبيتها العظمى من الأصول عينها. والتشييع بمعنى التحزب للإمام علي والمبادئ التي قاتل على أساسها. ربما اخترق الجبهة الأموية، حتى قبل تشكل تياره، إذ نجد قبيلة كبرى مثل تنوخ (يمانية) قاتل أحد فروعها في صفين، إلى جانب معاوية بفعل الأمر الواقع الجغرافي، ولس اقتناعاً بالمواقف والأسباب وغيرهما مما استهلكه مادة للمواجهة مع الإمام. ومثال ذلك يتجلى في الخلاف الذي حدث بين معاوية ومعن بن جبّلة التنوخي الذي أخذ عليه الأول تثاقله في الحرب، فأجابه غاضباً: “قد بذلنا لك الأمر ولا بد من اتمامه، كان غياً أو رشداً، وحاشا أن يكون رشداً، وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها إذا حُرجنا أثمار الجنة وأنهارها.
موقع جبل عامل الجغرافي الحصين والمنفتح على خطوط المواصلات الإقليمية في آن قد جعله على احتكاك دائم بالمتغيرات، واتصال بمنابع الثقافة
في ظل هذه التداعيات، تكرّست تلك البؤرة العاملية، متشبثة مبادئ بالإسلام الجذري، وقيماً بخط الإمام علي ونهجه، ومقاومة بثورة الإمام الحسين وفكراً بتراث الإمام الصادق وخلفائه الذي أعطوا التشييع وجهه العلمي الساطع، ولعل مجموعات أو أفراداً كانت لا تزال تفد على هذا الجبل طوعاً أو كرهاً، واجدة فيه ما يوائم توجيهاته العقائدية والفكرية، من غير أن تكون الخلافة العباسية أقل تشجيعاً على مثل تلك الهجرات التي انتشرت في ثغور السالح الشامي وعلى تخومه الشرقية، ولم يكن جبل عامل في منأى عن تلك التحولات خصوصاً أن موقعه الجغرافي الحصين والمنفتح على خطوط المواصلات الإقليمية في آن، قد جعله على احتكاك دائم بالمتغيرات، واتصال بمنابع الثقافة التي اتخذت لها مدارس واتجاهات في العراق وإيران بدءاً من الكوفة في القرن الثاني وليس انتهاء بالنجف وقم في القرن الرابع للهجرة.
بصمات عاملية
وكثيراً ما قصد الجبل علماء من هذهالمراكز وأفاحوا في مجاله، يؤسسون لنهضته التي انطلقت مع الشهيد الأول في القرن التاسع ناهلاً من تلك الينابيع. والسنون تمر وفقهاء أفذاذ على هذا الطريق، يقارعون التحديات ويصارعون الفقر والظلم، ولم يأبهوا للخطر يحدق بهم.. وكانت أقلامهم لا تزال تشق السجف وتنتشر أرواحهم كالقناديل على المدى البعيد.
وهكذا لم يعد جبل عامل امتداداً لتلك المراكز العلمية يتزود منها ويتأثر بها فحسب، بل قدّم لها الأساتذة المتفوقين والمبدعين في مجالات تعدت العلوم الدينية إلى غيرها من العلوم. وليس ادعاء من هذا المنظور، أن النهضة العاملية كانت سابقة بمسافة من الزمن على تلك التي انطلقت من مصر إلى المنطقة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكن الأخيرة تيسر لها من أسباب الانتشار، فضلاً عن الشهرة ما لم يتيسر للنهضة العاملية المحاصرة والمسكونة بالتحديات الجسام.
اقرأ أيضاً: قرى تخلع أسماءها التاريخية… عيتا الزط “الجبل” مثالاً
وكانت الهجرة إلى الجبل العاملي لا تزال مستمرة، تحمل معها إلى جانب العلوم الدينية اللغة الصحيحة والشعر الجميل الذي قلما خلت منه جعبة فقيه، فأثر ذلك كله في الوعي التاريخي للعامليين الذين تفتحت عقولهم باكراً على تلك المعارف فتأثروا بها في حياتهم السياسية والاجتماعية والأدبية. ولعل إحدى هذه الهجرات كان لها موقع خاص في هذا السياق، وهي الممثلة بأسرة الأمين القادمة في القرن الحادي عشر للهجرة – السابع عشر الميلادي من الحلة في العراق، هذه التي انتسب إليها كثيرون من مشاهير العلماء والشعراء والنازلة في شقراء البلدة العاملية العريقة والنابضة بتراث أسرتها الأمينية، التي ما انفكت تمارس عن جدارة تقاليدها العلمية من دون أن تتخلى عن دورها الوطني والقومي. فكانت مدرسة متفردة في انفتاحها ومفاهيمها المتجددة وفي ثورتها على التخلف والجهل، كذلك في النظرة الموضوعية إلى التراث بعيداً عن الأسطرة واستفزاز المشاعر.
إلى جانب هذه الأسرة – المدرسة كانت ثمة حالات مشابهة في جبل عامل معممة هذا الأنموذج، ربما بصورة متفاوتة على أماكن عدة فيه، جنوباً وساحلاً ووسطاً حيث انطلقت الأسر – المدارس تاركة بصماتها المتنوعة في الأدب والفقه والتاريخ وما إلى ذلكمن علوم دينية وإنسانية.
(مجلة شؤون جنوبية العدد السادس تموز 2002)